ما أتكلَّم عنه هو المشهد الذي نعيش، فلا منجاةَ من المكوث القاتل في الواقع، إلّا بالنضال الحثيث لإتاحة الفرص أمام القول الجديد لتصوّرات الفكر الراهن. ولا شيء يُنَفِّرُ الفكرَ مِن الفكر إلّا مقابلةُ التفكيرِ الحيّ بالتفكير الميت، أي مواجهة الفهم الراهن القائم الآن بالمفاهيم المتوارَثة إلى الآن.
الاحتلال الصهيوني هو العقل الأقلّي القاتل تدعمه أميركا الذهنية الأقلّويّة الكبرى التي تسود العالم
إنَّ عقدَ الآمال على المفاهيم المتوارَثة في إحداثِ تغييرٍ يؤثِّرُ في العالم هو توهُّمُ الحضور الفاعل اليوم، وهو ما يُوَلِّدُ العقلَ الأَقَلِّيَّ القاتل الذي لا يمكنُ أن يحيا إلّا بإلغاء العقل الآخر، أي بإنكارِ العيشِ معًا، بل بضرورة قتلِ إمكانية التلاقي بين الأنا والأنا في مشهدٍ واحد. وأكثرُ من ذلك، تبريرُ احتلال الأنا للأنا، أي الاستهانة بحياة الآخر وجعل الموت فعلًا قصْديًّا بدل أن يأتي بعد انتهاء الفرد من الحياة. تخيَّلوا أن يُجاوِزَ الشرُّ الإبادةَ بسلاح الدمار الشامل إلى التجويعِ وإيذاء الجسد بيولوجيًّا؟! ماذا بقي من الإنسانِ إذا ارتبطَ مصيرُه بلقمَة، نسمّيها نحن "لقمة عيش"؟!.
الاحتلال الصهيوني هو العقلُ الأقلّي القاتل، تدعمه الذهنية الأقلّويَّة الكبرى التي تسود العالم، بقوة السلاح والمال والعلم والهيمنة، أي أميركا التي لم تنسَ على ما يبدو لحظة تشكُّلها الأولى وطنًا مكانَ وطن. عندما أتى الأوروبيون التجّار واحتلوا القارة الجديدة وقتلوا أهلها، فجرت العادة في الإبادة، طالما لم يعترض باقي البشر كثيرًا على هذا الوجود المارق!.
أمّا العقول الأقلَّية المحلِّيَّة فهي الذهنيات الضَّحْلة التي لم تفارِق أوهامها باستلام الحكم. أوهامٌ تقتضي تكوين الخصوم كلّ الوقت، لا من باب المنافسة الحضارية التنموية، بل من باب ما سمّيناه التطويع والإخضاع. والعقل الأقلِّي ليس حِكرًا على طائفة أو فئة أو مذهب، بل قد ينمو في ذهن أكبر أكثرية أو أكبر سلطة مُهيمنة، كما ذكرنا حالة أميركا.
لا شيء يُفشل تخطيط العدو في الهيمنة على بلادنا إلّا أن يخالف المجتمع الحيّ المفهوم الميت
الذهنيات المرعوبة تتشبَّثُ دومًا بالسلاح اعتقادًا منها أنّه يحميها من شرور الآخرين، أو من محاولات إلغائها وتقليص وجودها. السلاح الأقلِّي هو قوة وهمية لا تُنجز الوجود الحقيقي لحامليه. فوجود الإنسان هو حضوره الثقافي الإبداعي في العالم، وهو صناعةُ العيش المشترك القائم على البُعد الحضاري في الاندماج الحيوي في الواقع.
العقل الأقلِّي لا يُقيم اعتبارًا لمفاهيم السياسة الرّاهنة، والمشكلة ليست في كثرة المنتمين إلى طائفةٍ دون أخرى، بل في تنظيم الاجتماع الجدِّي لفَسْح مجال الاشتراك الحرّ في تكوين المفهوم الضروري لقيام الدولة الراهنة، فلا شيء يُفشلُ تخطيط العدو في الهيمنة على بلادنا وتسميتها "شرق أوسط جديد"، إلّا أن يخالف المجتمع الحيُّ الواقعيّ هذا المفهوم الميت المارق. وهذا المفهوم لن يظهر أنّه جثة هامدة حتى يقابَلَ بتفكيرٍ حَدَثيٍّ يمنع حدوثه، أي بقدرةٍ على القول الصريح الذي يؤسّس لمفهوم الحرية اليومي.. فتنتفي أوهام الأقلية والأكثرية وتتحسَّنُ لغةُ الحضور وتتجوَّد حضارة المجتمع.
(خاص "عروبة 22")