وجهات نظر

التهجير أو/ و "نهاية إسرائيل" (2/2)

لا يُعرف متى على وجه التحديد وضعت "إسرائيل" خطة التهجير لسكان قطاع غزة، خاصة مع كيان قام على التهجير والإبادة والتطهير العرقي، ولكن الدلائل والمؤشرات والمعلومات تشير إلى أنّ ذلك أصبح تفكيرًا جديًا وخططًا تُدرس بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988 التي كشفت عن التطوّر الديمغرافي، ومع حلم رابين بغرق غزة في البحر، كما أنها تأكدت مع إسكات ما كان يُعرف في إسرائيل بـ"المؤرّخين الجدد" الذين برز صوتهم في الثمانينيات والذين ناقضوا الرواية الإسرائيلية حول قيام الكيان الصهيوني من خلال الإشارة لجرائم الإبادة والتهجير والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني الذي قامت عليه "الدولة" بدلًا من رواية الكفاح من أجل الاستقلال التي تم تعميمها بل وتقديم إرهابي مثل بن جوريون على حقيقته بدلًا من تقديمه كبطل.

التهجير أو/ و

كان ظهور "المؤرّخين الجدد" مرتبطًا بعوامل مثل السماح بكشف وثائق إسرائيلية عن قيام الكيان الصهيوني لم يكن مسموحًا تداولها من قبل، ووجود بعض المؤرّخين درسوا وكتبوا بعيدًا عن سيطرة "المؤسسة" وحالة استرخاء كان يشعر معها الصهاينة بانتهاء القلق الوجودي بعد توقيع اتفاقية "سلام" مع مصر - أكبر دولة عربية - وانتهاء فكرة الحرب مع الدول العربية عمليًا بإخراج مصر منها.

كما أنّ المؤشرات لخطة التهجير بدأت مع بدء مراكز الدراسات والأبحاث الصهيونية في الفترة ذاتها، أي بداية تسعينيات القرن الماضي، الاهتمام بالدراسات الديموغرافية وتأثيرها على الصراع العربي الصهيوني والقضية الفلسطينية ومستقبل "إسرائيل"، وهي دراسات سبّبت الرعب في "إسرائيل" عندما بيّنت أنّ اليهود سيصبحون في العقد الثالث من القرن العشرين أقلية في فلسطين التاريخية وأنّ الفلسطينيين سيصبحون الأغلبية دون عودة اللاجئين، ناهيك عما يخلقه التحوّل الديمغرافي في أراضي 1967 من عبء متعدّد الجوانب على الاحتلال بما فيها استنزاف صورة إسرائيل المزعومة في الغرب!.

ترافقت الدراسات الديمغرافية مع خطط ودراسات وتصوّرات للحل من مراكز أبحاث إسرائيلة كثير منها نشرت أو نشر عنها - يمكن العودة إليها لمن أراد -، تضمّنت خيارات متعدّدة لمعالجة هذا الخلل، منها استجلاب مزيد من اليهود والمستوطنين إلى فلسطين المحتلة وهو أمر لم يعد بالسهولة القديمة، بل ومع هجرة معاكسة وإن كانت محدودة، وركّزت الدراسات على تهجير الفلسطينيين وحتى تبادل الأراضي والسكان بالنسبة لعرب 48.

"إسرائيل الكبرى" بدأت تموت مع إدراك الصهاينة أنّ التفوّق الديمغرافي العربي كفيل بهزيمة القوة الصهيونية العاتية

تنبّأ بعض هذه الدراسات بنهاية إسرائيل إن لم تتم معالجة التحوّل الديمغرافي لصالح الشعب الفلسطيني والخلل الذي يتسبّب به في معادلة الصراع، وكان بعض الدراسات قد أشار إلى المراحل التي مرّ بها الكيان الصهيوني منذ قيامه، بدءًا من المرحلة الأولى التي كانت فيها "الدولة" المحاطة بجيوش عربية معادية مهدّدة بوجودها رغم تفوّقها بالسلاح التقليدي والحماية الأمريكية، إلى المرحلة التي اختفى فيها هذا التهديد مع السماح لإسرائيل بامتلاك سلاح نووي وعدم السماح للعرب بامتلاكه، وحتى ظهور العامل الديمغرافي الذي حيّد السلاح النووي وأصبحت المقاومة الفلسطينية بأنواعها ومراحل تطوّرها المتسارع أكثر رعبًا للمستوطنين من الطيران الإسرائيلي الذي تحوّل في كثير من الأحيان إلى مجرّد مسدس لاغتيال القيادات الفلسطينية أو أداة لقتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين العزّل واستنزاف للصورة المزعومة للكيان الصهيوني لدى الغربي بل الضمير الإنساني كله.

واعتبرت هذه المرحلة منذرة بنهاية إسرائيل، وإلى هذه المرحلة ولدت خطط التهجير وحتى خطة غزو العراق التي اعتبرتها الدراسات أقرب الدول إمكانية للحصول على السلاح النووي.

فكرة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل بدأت تموت مع إدراك الصهاينة أنّ التفوّق الديمغرافي العربي كفيل بهزيمة القوة الصهيونية العاتية، خاصة بعد تجربة الدخول إلى لبنان واحتلال جنوبه واضطرار "إسرائيل" للانسحاب مهزومة منه. مقاربة جديدة طرحت من خلال أطروحة بيريز عن "شرق أوسط جديد"، تكون فيه "إسرائيل العظمى" التي تهيمن بنفوذها على وطن عربي ممزّق من خلال التطبيع، بديلة لـ"إسرائيل الكبرى" تستفيد من الديمغرافيا اقتصاديًا، يدًا عاملة وسوقًا، بدلًا من مواجهتها مقاومةً وقتالًا.

وضعت إسرائيل خطط التهجير وبقيت تحاول تطبيقها كلّما وجدت الفرصة سانحة

لكن المشكلة بقيت في القضية الفلسطينية التي لم تفكّر كل الدراسات والمراكز والاتجاهات السياسية والحزبية الإسرائيلية في مقاربتها من زاوية الحل والانسحاب من الأرض ولو بمفهوم "حل الدولتين" وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأرض المحتلة عام 1967، ولو كان حلًا لا يرضي المطالب الداعية لتفعيل حق العودة والحل الديمقراطي في فلسطين من البحر إلى النهر.

وضعت إسرائيل خطط التهجير وبقيت تحاول تطبيقها كلّما وجدت الفرصة سانحة، وكلّما اكتشفت حجم ما تنتجه المشكلة الديمغرافية من تطوّر الصراع لصالح أصحاب الحق الفلسطينيين.

كانت إسرائيل تحقق انتصارات تثبت وجودها بل وتطبّع في المنطقة مدعومةً بالولايات المتحدة الأمريكية على امتداد الوطن العربي.. جرى احتلال العراق وإسقاط أنظمة عربية وتمزيق الوطن العربي وعقد اتفاقات سلام وحدود مع إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية وكأنها وريثة الانتداب وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية أقلية داخلية، والتصفية التدريجية لمخيمات اللاجئين في دول الجوار كما حدث لمخيم "نهر البارد" في لبنان ولاحقا "اليرموك" في سوريا وكادت أن تنجح لولا فشلها في عقد اتفاق مع سوريا على حدود فلسطين التاريخية في جبهة الجولان وبحيرة طبريا ونجح مخطط إشغال الدول العربية ببعضها وتدمير الجيوش العربية وإشعال الحروب الأهلية بتواطؤ أنظمة ودول إقليمية معادية للعرب، وأوجدت بموجب "أوسلو" سلطة فلسطينية "وظيفية" تتحمّل نيابةً عنها العبء، ولكن كل ذلك لم يحقّق لها ما تريد وبقيت غزّة هي عبء الديمغرافيا الأصعب، لم يعالجه الانسحاب من غزّة وحصارها ولا الحروب المستمرة عليها، وبقي التفكير المستمر بالتهجير حلًا يتم العمل عليه وتحيّن الفرص لتنفيذه.

ما يحدث في غزّة وتبني مساعي التهجير من أميركا وحلفائها الغربيين، إدراك للخطر الوجودي الذي يواجه الكيان الصهيوني

كشف الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن عرض نتنياهو له بتهجير فلسطينيي غزّة إلى "سيناء"، وكشف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن إبلاغ الرئيس المصري المعزول الراحل محمد مرسي عن موافقته على تهجير فلسطينيي غزّة إلى "سيناء"، ربما كصفقة مع "الأخوان المسلمين" في إطار ترتيبات ما عُرف بالربيع العربي. أصبحت خطة التهجير إلى "سيناء" مسألة وجود، وإبعاد الفلسطينيين عن غزّة بمثابة تحقيق حلم رابين بإغراق غزّة في البحر، فالمقصود بالإغراق هو إبعاد البشر، وإذا نجح هذا المخطط سيتم تنفيذه في الضفة تجاه الأردن، فالضفة تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى غزّة أخرى مع فارق قداستها لدى الأساطير الصهيونية ومشكلة المستوطنين.

لم يكن ما يحدث في غزّة من عدوان حاليًا وحجم العنف والقتل والإبادة الجماعية والتطهير العرقي بإزاحة سكّان غزّة باتجاه جنوبها، وإعلان مساعي التهجير بل وتبنّيه رسميًا من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وكشف النوايا بهذه الطريقة، إلا إدراكًا للخطر الوجودي الذي يواجه الكيان الصهيوني.

الهزيمة التي واجهها الجيش الصهيوني ومخابراته وآلته الحربية في 7 أكتوبر/تشرين الأول بـ"طوفان الأقصى"، بقدر ما شكّلت صدمه له ولحلفائه وجرحت كبرياء جيش قال إنه لا يُقهر، إلا أنها إنذار بهزائم أكبر تؤدي إلى نهاية إسرائيل إن بقي الفلسطينيون على أرضهم، تولد بطون النساء أعدادًا لا متناهية من شباب يتطلّع إلى الحرية مهما كان الثمن، فسعت إلى استغلال الدعم الأمريكي والغربي غير المسبوق الذي أصيب بالصدمة مما جرى لربيبته، فمنحها رخصة قتل لا محدود، ودعمًا سياسيًا ماديًا وعسكريًا وغطاءً لمخالفة القانون الدولي من أجل تنفيذ التهجير حتى لا تكون نهاية إسرائيل.

معادلة صعبة للكيان الصهيوني... إن فشل في التهجير كانت نهايته وإن نجح كانت نهايته أيضًا

ولكن المعادلة الصعبة أنّ إسرائيل إن فشلت في التهجير، كان في ذلك بداية لنهايتها، وان نجحت بثمن إنساني فادح وإبادة جماعية في دفع بعض الفلسطينيين إلى مغادرة غزّة التي ألقي فيها حتى الان كمٌّ من القنابل تفوق في حجمها قنبلة "هيروشيما" وارتكبت مجازر غير مسبوقة، فإنها تشعل المنطقة كلّها وقد تدفع إلى حرب غير مسبوقة ستكون هي الخاسر الأكبر فيها وستكون فيها أيضًا نهايتها مع تحوّل في الرأي العام الغربي وانكشاف "إسرائيل" كآخر صور الفصل العنصري والاستعمار.

هي معادلة صعبة للكيان الصهيوني إن فشل في التهجير كانت نهايته، وإن نجح في تحقيقه ولو نسبيًا كانت نهايته أيضًا.


لقراءة الجزء الأول: التهجير أو/ و "نهاية إسرائيل" (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن