وبما أنّ هذا العقل الجمعي موزّع على عدة شرائح مجتمعية، فلا ضير من التدقيق هنا بأنّ المقصود بهذه الخلاصات، نسبة معينة من النخب البحثية وليس العقل الجمعي للعامة أو البسطاء، أو ما يُصطلح عليه إعلاميًا من باب تقريب الصورة بـ"رجل الشارع"، الذي لا يزعم أنه باحث أو كاتب أو مفكّر أو مُنظّر أو شيء من هذا القبيل.
وجبَ التدقيق أيضًا بأنّ المقالة لا تتطرّق إلى تفاصيل ومعالم هذه المأساة الفلسطينية الجديدة، بقدر ما تتطرّق إلى تفاعلنا الجمعي معها، لأنه يبدو أنه لا يقل مأسوية، خاصة عندما يتعلّق الأمر بقراءة تفاعلات المعنيين بهذه الخلاصة.
يتعلّق الأمر بمضامين مجموعة من التفاعلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي صادرة عن باحثين عرب، في سياق قراءة أحداث "طوفان الأقصى"، وقد صبّت هذه التفاعلات في الحديث عن "أفول الغرب" أو أنّ "الحداثة كذبة كبرى"، أو التعبير عن حسرة بخصوص تدريس الفلسفة الغربية في المؤسسات التعليمية بالمنطقة العربية، وتدوينات من هذه الطينة.
كأننا عدنا إلى حقبة تزييف الوعي باسم الدين عِوَض التقدّم إلى الأمام بما يُفيد مجتمعات ودول المنطقة العربية
ولم يقتصر الأمر على نشر هذه التدوينات التي تنهل من خطاب حماسي وعاطفي بحكم تأثير سياق اللحظة المأساوية سالفة الذكر، بل وصل إلى انخراط مجموعة من الحسابات الرقمية في الترويج لهذا الخطاب الاختزالي، وتوجيه الدعوة إلى الباحثين في المنطقة العربية إلى تبني إشارات هذا الخطاب.
عاينّا ذلك على سبيل المثال في مجموعة من الحسابات لأسماء محسوبة على المرجعية الإسلامية الحركية، أو أسماء كانت كذلك وتزعم أنها لم تعد محسوبة على مشاريع "الإسلام السياسي"، فالأحرى أسماء بحثية محسوبة على مشاريع ما يُصطلح عليه بـ"أسلمة المعرفة" في نسختها الإيديولوجية، وذلك بالرغم من نهل الأسماء نفسها من أدبيات العلوم الإنسانية، وأخذها مسافة نظرية ولو نسبية من أدبيات الجماعات الإسلامية، وبالتالي كان من المفترض أن نعاين مراجعات في خطاب هؤلاء، لكن اتضح خلاف ذلك، كأننا عدنا إلى الوراء، أي عودة إلى حقبة تزييف الوعي باسم الدين عِوَض التقدّم إلى الأمام بما يُفيد مجتمعات وأنظمة ودول المنطقة العربية.
ولو أنّ هذه التفاعلات المسيئة لأصحابها صدرت عن "بسطاء" لما تطرّقنا للموضوع أساسًا، ولكن أن تصدر عن باحثين، وبعضهم في مقام التدريس بالجامعات، مسألة تطرح أكثر من علامات استفهام.
كما لو كنّا نعاين بعض تطبيقات مضامين "سيكولوجية الجماهير" للطبيب الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، أي العمل البحثي الذي يفتح أعين القارئ من أجل قراءة عدّة مميّزات تهم أداء وتفاعل الجماهير، وتفيد هذه القاعدة - وهي مفتاح نظري نوعي - أنّ انضمام مفكّر أو باحث إلى تجمّع جماهيري ما، يجعله يتماهى في مواقفه مع مواقف الجماهير نفسها، أيًا كانت طبيعة تلك المواقف، حتى لو كانت اختزالية وحماسية، ومعلوم أنه غالبًا ما تكون كذلك بالفعل، لكن المعضلة النظرية هنا تفيد أنّ الباحث المعني، كان مفترضًا أن يأخذ مسافة من ذلك الخطاب الاختزالي، إلا أنّ واقع الحال يفيد خلاف ذلك، وما أكثر الأمثلة التي تزكي ما ذهب إليه لوبون في هذه الجزئية بالذات. (نقول هذا بصرف النظر عن ملاحظات نقدية وجيهة حول الكتاب نفسه، تطرّق إليها هاشم صالح، مترجم الكتاب إلى العربية منذ عقدين، وتهمّ على الخصوص حضور المحدّد العرقي في أفكار لوبون، ولكن هذا موضوع آخر، لا يهمنا في سياق هذه المقالة).
الرأي العام العربي يبحث عن قراءات نوعية ونافعة من أجل متابعة ومواكبة أحداث الساحة
إذا كانت نسبة من الأقلام البحثية العربية، التي نتوسّم فيها خيرًا لكي تنخرط في تنوير الرأي العام بخصوص قراءة أحداث الساحة، متورّطة في نشر هذه التفاعلات الاختزالية، إما بسبب تأثير اللحظة المأساوية، أو تغليب خطاب العاطفة على العقل، أو مسايرة هوى الرأي العام، أو استمرار تأثير النهل الإيديولوجي أو لأسباب أخرى، فماذا ننتظر والحالة هذه من الرأي العام العربي الذي يبحث هنا وهناك عن قراءات نوعية ونافعة من أجل متابعة ومواكبة أحداث الساحة، سواء تعلّق الأمر بالتطورات المقلقة في فلسطين أو في مناطق أخرى.
هذا عن خلاصة واحدة، مواكبة مع خلاصة موازية، على أمل الخوض لاحقًا في قلاقل خلاصة موازية لا تقل أهمية، إن لم تكن أولى، لأنها تهمّ دوائر صناعة القرار.
(خاص "عروبة 22")