وجهات نظر

٦ و ٧ أكتوبر

دُعيت من أحد المنتديات الفكرية في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، للحديث في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر/تشرين الأول١٩٧٣، ثم وقع "طوفان الأقصى" قبل إتمام اللقاء الذي كان قد تحدّد له يوم ٢٦ من الشهر فاتفقت مع منظميه على استحالة اقتصاره على حرب ١٩٧٣ وأنه من الضروري التطرّق إلى عملية "طوفان الأقصى" التي مثّلت علامة فارقة في حركة التحرّر الفلسطيني أيًا كان حصادها النهائي.

٦ و ٧ أكتوبر

وعندما حان موعد اللقاء رأيتُ أنّ النهج الأمثل لمقاربة الموضوع قد يكون النهج المقارن، واخترت سبعة محاور للمقارنة، ستة منها تُظهر نقاط التشابه بين العمليتين التاريخيتين، وواحد يظهر الاختلاف.

أما محاور التشابه فهي أنّ كلتيهما حركة تحرّر وطني - مهما حاولت إسرائيل وحلفائها أن تُلصق بـ"حماس" صفة الإرهاب -، وعنصر المفاجأة الاستراتيجية فيهما معًا، وأنّ خصوم العمليّتين قد وجهوا لهما الاتهام بأنهما تمثيليّتان لهما أغراض خفية لا علاقة لها بغرض التحرير، وأنّ كلتا العمليّتين قد أنزلتا ضربة قوية بإسرائيل مهما كان مآل "طوفان الأقصى"، وأنّ كلتيهما كانت له تأثيراته الجذرية على مجريات الصراع العربي - الإسرائيلي، فلم يكن الانسحاب الإسرائيلي من سيناء ممكن دون حرب ١٩٧٣، كما أنّ "طوفان الأقصى" ترك بصمة لا تُمحى على مسار النضال الفلسطيني التحرّري على الرغم من أنّ حصاده النهائي لم يتحدّد بعد، وأخيرًا فإنّ الدعم الأمريكي السافر لإسرائيل كان حاضرًا في العمليّتين.

وقد تأتي مناسبة أخرى للتفصيل في هذه المحاور، لكني أكتفي في هذه المقالة بآخرها المتعلّق بالدور الأمريكي المنحاز انحيازًا مطلقًا لإسرائيل في الحالتين، لأهميته وخطورته في استشراف المستقبل القريب لمسار الأحداث، والتبصير بالتحالف المعادي للأمّة العربية.

ضراوة الضربة أصابت القيادة الأمريكية بالقلق الشديد نظرًا للدور الذي تلعبه إسرائيل في تنفيذ المخططات الأمريكية

في 6 أكتوبر/ تشرين الأول ١٩٧٣ عبرت القوات المصرية قناة السويس ودمّرت خط بارليف، وتوالت انتصاراتها حتى لاحت بوادر الهزيمة الإسرائيلية، وهنا استصرخت رئيسة وزراء الكيان الصهيوني آنذاك الرئيس الأمريكي على أساس أنّ وجود إسرائيل بات مهددًا فأقام جسرًا جويًا لنقل الأسلحة والذخائر إليها على وجه السرعة، ولاحظت القوات المصرية أنّ عدادات المسافات في الدبابات التي تمّ تدميرها أو الاستيلاء عليها تشير إلى المسافة بين مطار العريش وموقع التدمير أو الأسر، وهو ما يعني أنها جديدة تمامًا، وفي ١٤ فبراير/شباط حلّقت طائرة استطلاع أمريكية على ارتفاع هائل فوق مسرح العمليات، واتضح لاحقًا أنها صوّرت أوضاع القوات المصرية، وحدّدت الموقع الذي يمكن أن تنفذ منه إسرائيل بين الجيشين الثاني والثالث لتنفيذ خطة العبور إلى الضفة الغربية في محاولة لتغيير ميزان القوى في الحرب بما تُحدثه القوات الإسرائيلية من تخريب في دفاعات القوات المصرية، وقد تمكّنت القوات المصرية رغم ما لحق بها من خسائر من صد محاولة السيطرة على مدينة الإسماعيلية، فلمّا اتجهت قوات الثغرة لمحاولة اقتحام مدينة السويس أوقعت بها قوات المقاومة الشعبية خسائر فادحة أجبرتها على التراجع، وهكذا حوصرت في منطقة محدودة، وتأكدت قدرة القوات المصرية على تصفيتها فهُرع هنري كيسنجر لإيجاد مخرج، وتم الاتفاق على اتفاقية فض الاشتباك الأولى في يناير/كانون الثاني ١٩٧٤ التي وضعت نهاية للثغرة، لكن لا شك أنّ هذا الدعم الأمريكي لعب دورًا في زيادة خسائر القوات المصرية.

وفي "طوفان الأقصى" بدا واضحًا منذ البداية أنّ ضراوة الضربة التي انطوت عليها العملية قد أفقدت قادة إسرائيل توازنهم، وأصابت القيادة الأمريكية بالقلق الشديد نظرًا للدور الذي تلعبه إسرائيل في تنفيذ المخططات الأمريكية، والذي دعا الفريق عبد المنعم رياض الذي استُشهد في مارس ١٩٦٩على الخطوط الأولى للقتال إلى أن يصفها بأنها "حاملة الطائرات البرية الأمريكية في المنطقة".

ولذلك تحرّكت الولايات المتحدة على الفور، ولكن هذه المرة على نحو أكثر سفورًا فأرسلت أكبر حاملات الطائرات الأمريكية لشرق المتوسط، وتبعتها بأخرى لتكون قريبة من مسرح العمليات في البحر الأحمر والخليج، ناهيك بالقوات الخاصة التي أرسلتها للمشاركة في القتال، وبالذات فيما يأملونه من عمليات لتحرير الرهائن، ومفهوم بوضوح أنّ هذه التحركات تمثّل رسالة ردع لأي قوة تجرؤ على التدخل في القتال ضد إسرائيل.

معسكر الأعداء يحاول بكل الطرق تخريب النضال المشروع للأمّة العربية وشعبها الفلسطيني

ومما زاد القلق الأمريكي أنّ "طوفان الأقصى" جاء في زمن تواجه فيه الولايات المتحدة تحديًا حقيقيًا من شأنه أن يحدث تحولًا نوعيًا في مكانتها على قمة النظام الدولي، ولذلك فهي حريصة على ألا تمثّل نتائج "طوفان الأقصى" إضافة للتحديات التي تهدد هذه المكانة، ومن التطورات السيئة أنّ القوى الأوروبية الرئيسية التي عُرِفت مواقفها عادةً بالاعتدال قد أظهرت بدورها انحيازها الصارخ لإسرائيل.

وقد ركّزت على هذه النقطة أولًا لكي يتم التأكيد على معسكر الأعداء الذي يحاول بكل الطرق تخريب النضال المشروع للأمّة العربية وشعبها الفلسطيني، والانتباه إلى ضرورة مواجهتهم بالدرجة نفسها التي نواجه بها إسرائيل، وثانيًا لإعطاء المقاومة الفلسطينية الشامخة حقها من التمجيد، فها هي إسرائيل التي تملك واحدًا من أقوى الجيوش عالميًا تقف لأكثر من ثلاثة أسابيع حتى وقت كتابة المقالة أمام حدود غزّة عاجزة عن التقدّم، وتُضطر للاستنجاد بأكبر قوة عسكرية عالميًا، ويدعو الرئيس الفرنسي لتكوين تحالف دولي ضد "حماس" باعتبارها نسخة من "داعش".

ألا بئس ما يحكمون، وسوف ينقلب السحر على الساحر إن آجلًا وإن عاجلًا بإذن الله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن