قضايا العرب

بين "القطاع" و"الجيتو".. فظائع "الهولوكوست" تتضاءل أمام "إبادة" غزّة

القاهرة - محمد بصل

المشاركة

"قرّرت سلطات الاحتلال السماح للمستشفيات بالعمل لعلاج الجرحى والأطفال ومصابي الأمراض الباطنية والأسنان، وإمداد المستشفيات بأجهزة للأشعة، مع تأمين عمل 180 من الأطباء والممرضين في المستشفى الواحد وفتحه على مدار الساعة مع إتاحة الأدوية في الصيدلية، كما سمحت بإمداد كل حيّ بحمامات عامة توفر المياه الساخنة للمواطنين، وتجهيز مغسلة في كل حيّ وتأمين عمل محال قص الشعر للعناية بالنظافة العامة والاحتراز من انتشار الأوبئة".

بين

السطور السابقة أعلاه ليس لها علاقة بقطاع غزّة الصامد المحاصر، ولا بسلطة الاحتلال الإسرائيلي، بل هي إجراءات اتخذتها قوات ألمانيا النازية في بعض أحياء الجيتو بدول أوروبا الشرقية التي يعتبرها العالم الحر واحدة من أبشع الفظائع الإنسانية في التاريخ الحديث، لارتباطها المباشر بسياسة إبادة اليهود وتهجيرهم من أوروبا، والتي أفضت إلى إنشاء معسكرات الهولوكوست التي يزعم اليهود أنه راح ضحيتها الملايين.

أسّس اليهود بعد الحرب العالمية الثانية على الجيتو جزءًا مهمًا من سرديّتهم للمظلومية التاريخية في النصف الأول من القرن العشرين، باعتبارها من أحط الممارسات وأبشعها في تاريخ البشرية، إذ شملت حسب الرواية المتداولة "جمع ملايين المواطنين على أساس ديني أو عرقي داخل أحياء شبه معزولة وفرض عقوبات جماعية عليهم كالتشغيل القسري مقابل الغذاء، ويصل الأمر إلى القتل والإخفاء القسري حال الانخراط في أعمال المقاومة".

اكتسبت أحياء الجيتو سمعة قاسية غير مسبوقة من كثرة وتنوع الأهوال التي رواها الناجون اليهود، حتى بات تعبير "جيتو" يُطلق على أي إجراء عنصري يتضمّن تهجير مجموعة من السكان لفصلهم عن الأغلبية أو تمهيدًا لإبادتهم.

من هنا استدعى بعض المراقبين ذكرى الجيتو لوصف غزّة تحت الحصار التي يخنقها الاحتلال من جميع الجهات ويدمّر مرافقها التحتية وبنيتها المدنية لتصبح غير قابلة للحياة مستقبلًا، سواء لحمل أهلها على الهجرة القسرية أو لإفنائهم.

ولا يعد تعبير الفناء من ضرب المبالغة في ظل استدعاء العصبية الدينية والهوس العرقي على لسان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي استشهد بما جاء في العهد القديم من "صراع بني إسرائيل والعماليق، "تَذكَّرتُ ما فعَلَ بَنو عَماليقَ بِبَني إِسرائيلَ حينَ خرَجوا مِن مِصْرَ، وكيفَ هاجَموهُم في الطَّريق.. فا‏ذهَبِ الآنَ وا‏ضرِبْ بَني عماليقَ، وأهلِكْ‌ جميعَ ما لهُم ولا تَعفُ عَنهُم، بلِ ا‏قتُلِ الرِّجالَ والنِّساءَ والأطفالَ والرُّضَّعَ والبقَرَ والغنَمَ والجِمالَ والحمير".

غزّة.. هل هي جيتو العصر؟

تتطابق ألفاظ كثيرة في روايات الناجين من مآسي الجيتو مع التعبيرات التي تُستخدم اليوم للوصف العيني لما يقع على رؤوس أهالي غزّة من أهوال، لكن ثمة اختلافات كبيرة بين الوضعين تاريخيًا وعمليًا، تجعل من الظلم أن يوصف الجيتو بالبشاعة، ويستوي معه حصار غزة في الوصف نفسه.

على رأس تلك الاختلافات أنّ فظائع الجيتو انكشفت للعالم بعد سنوات من وضع أوزار الحرب العالمية الثانية، على ألسنة الناجين وأوراق السلطات الألمانية والصور الفوتوغرافية التي قُدّمت في محاكمات نورمبرج وغيرها من محاكمات مجرمي الحرب النازيين، أما فظائع غزّة فتُرتكب على مرأى ومسمع من العالم، الذي بات يشاهد ولأوّل مرّة حرب إبادة جماعية متكاملة الأركان عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

أما الاختلافات الأخرى فتكشفها لنا المقارنة بين الواقع الفلسطيني وبين نخبة من الأبحاث التاريخية والاجتماعية المُحكّمة والشهادات الموثّقة التي رُويت عن الجيتو، واستهدف بعضها مجرد التوثيق وكتابة السرديات، بينما كان البعض الآخر يرمي إلى رسم صورة أوضح ليوميات الجيتو منذ إنشاء تلك الأحياء العنصرية العقابية بين عامي 1940 و1941 وحتى انقضائها بتطوّر مجريات الحرب سواءً بترحيل المقيمين فيها إلى معسكرات النازي أو بهروب معظم الذكور شرقًا للمشاركة في المقاومة أو بالنجاة والهروب إلى دول أخرى.

ومن أدقّ الدراسات تلك التي أجريت على "جيتو فيلنا"، المدينة التي كانت مزدهرة وتتبع بولندا وقت الحرب العالمية الثانية وتقع حاليًا داخل حدود ليتوانيا، حيث اقتطع النازي قسمًا من حي الفقراء اليهود القائم في المدينة وجمع فيه اليهود من كل أرجائها لمدة عامين، ويزعم الناجون والدارسون أنّ عدد سكانه عند إنشائه في سبتمبر 1941 كان يناهز الأربعين ألفًا، وعلى الرغم من الصورة البائسة التي ترسمها شهادات الناجين والأرقام المتباينة لعدد الوفيات، إلا أنّ الدراسات الحديثة التي أجراها باحثون يهود تعكس مشاهد أخرى، هي بالتأكيد أكثر تفاؤلًا مما تقاسيه غزّة.

فمثل باقي الجيتو؛ منح النازي سلطات إدارية وتنظيمية واسعة لما كان يسمى "مجلس اليهود" وهو جهاز أشبه بالإدارة المحلية الذاتية للجيتو، ولكن في الحدود التي يقرّرها القائد العسكري الألماني المختص وبالتنسيق مع برلين. ونلاحظ أنّ معظم الأعمال الفنية والأدبيات المعاصرة عن الجيتو والهولوكوست تجاهلت دور تلك المجالس أو قلّلت من أهميتها، رغم ما تكشفه لنا الدراسات العلمية من حيويتها وتباين أدائها.

الحياة في الجيتو.. هل كانت أسوأ؟!

لم يكن النازي بطبيعة الحال يقصف الجيتو بقنابل تدميرية على مدار الساعة، بل لم يقصفه على الإطلاق، وتقتصر روايات العنف المنظّم ضد الجيتو على وقائع بعينها كقمع انتفاضة جيتو وارسو في ربيع عام 1943 حيث ترتّب عليها تدميره تمامًا ونقل الأحياء إلى معسكرات التركيز، علمًا بأنه قد تمّ تنفيذ الحكم بالإعدام على قائد خطة القمع هذه في بولندا بعد سنوات من الحرب، وهو الجنرال يورجن شتروب.

تمتّع جيتو فيلنا بمستشفى وخدمات صحية جيّدة تسببت في انخفاض معدلات الوفيات قياسًا بباقي الأحياء والمدن في زمن الحرب (522 شخصًا فقط في عام 1942) حيث كانت النساء تتمكنّ من زيارة العيادات يوميًا، وأصبح التردّد على العيادات جزءًا من سلوك العمّال، وشكّل النازي بالتعاون مع مجلس الحي لجنة ثلاثية تملك إعفاء العمّال من التشغيل القسري.

وفي بداية إنشاء الجيتو كانت المياه تعتريها مشاكل نظافة، ولكن خلال أسابيع قليلة تم إنشاء 6 مواقع داخل الحي لتوفير المياه الساخنة والنظيفة لجميع الأغراض، وذلك كلّه تحت إدارة صحيّة صارمة لضمان وصول المياه والأغذية النظيفة للسكّان بغية منع انتشار الأمراض الباطنية.

بعيدًا عن جيتو فيلنا، في أحياء مشابهة، يبتئس اليهود في رواياتهم على ضعف الإمدادات بـ"الصابون الرديء" وقلّة وسائل النظافة المتاحة، لكنّ المياه النظيفة كانت متوافرة بشكل مركزي في الحمامات الكبرى بالإضافة إلى قليل من المياه الجارية وغير المأمونة عادة في المنازل، وتعكس هذه الروايات أنّ الجيتو وإن كان يفتقر إلى حياة الدعة والوفرة، إلا أنّ البنية الأساسية للأحياء ظلّت قائمة كما كانت قبل الفصل العنصري، إن لم تكن قد تطوّرت لتواكب ارتفاع الكثافة السكانية بسبب تهجير اليهود من كل الأحياء إلى الجيتو المخصّص لهم.

أرقام – على فداحتها - لا تعبّر عن الواقع

بعد أكثر من 80 عامًا تعلن أكبر المنظمات المعنية بالصحة وسلامة المواطنين، على رأسها منظمة الصحة العالمية، عن خروج 40 مستشفى و32 مركزًا للرعاية الصحية الأولية من الخدمة في "جيتو كبير" يضم أكثر من 2.5 مليون مواطن، في ظلّ نفاد 90% من الأدوية والمستلزمات الطبية، وكل ذلك تحت نير قصف جوي هائل يؤدي إلى إصابة حوالى 500 شخص يوميًا منذ بداية الحرب الحالية، وصولًا إلى تقديرات إجمالية للجرحى تتخطى حاليًا العشرين ألفًا.

ومع استمرار تلقي المستشفيات الكبرى إنذارات يومية بالإخلاء القسري والتهديد بمصير المستشفى الأهلي المعمداني، أصبح ثابتًا بتقارير المنظمة أنّ 64% من المرافق الصحية لا تعمل، إن لم يكن بسبب الدمار، فبسبب انقطاع الإمدادات من الوقود بنسبة 100% والمياه النظيفة بنسبة 60% وانهيار خدمات الكهرباء بنسبة 80%. الأمر الذي دفع منظمة "أطباء بلا حدود" للحديث عن "فظائع غير مسبوقة في وحشيّتها لم نشهدها من قبل، تحت تأثير تعامل ضعيف وبطيء للغاية من دول العالم".

وبينما لا يتمكّن سكّان غزّة من الدخول أو الخروج حاليًا من مناطقهم إلا في الاتجاهات المحددة التي حاول الاحتلال الإسرائيلي الإيهام بتوفير ممرات آمنة بها عند محاولته تهجيرهم جنوبًا في الأسبوع الأول من الحرب، كان سكّان جيتو فيلنا يتمكنون من الدخول والخروج في مواعيد حدّدتها سلطة الاحتلال، إلى حد شيوع نشاط تهريب الغذاء والتبغ والبضائع، كما أنّ معظم الأحياء لم تكن لها أي أسوار أو جدران تعزلها عن محيطها الإقليمي.

ويدّعي اليهود في رواياتهم عن الجيتو أنّ "أعدادًا غفيرة من السكّان قد قضوا نحبهم من الجوع أو نقص الدواء" إلا أنّ الدراسات الموثّقة أثبتت – إلى جانب ما سبق ذكره عن الأوضاع الصحية - أنّ النازي سمح بإنشاء صالات لممارسة الرياضة استغلّها اليهود في التدرّب على استخدام السلاح وفرّ كثيرون منهم لاحقًا شرقًا للمشاركة في الحرب مع الجيش الأحمر، كما سُمح بإنشاء مدرسة ورياض أطفال استوعبت حوالى 900 تلميذ في عامين.

مستويات غير مسبوقة للحصار والتدمير

وتثبت الصور إنشاء مسارح في جيتو فيلنا (شاهد الصورة المرفقة أدناه) قدّمت أكثر من 120 عرضًا استمتع بها "السكان المقهورون"، وحضرت الظاهرة ذاتها في أحياء أخرى، فجيتو وارسو كان معروفًا بحياته الليلية الصاخبة، حيث ترك النازيون الملاهي دون مساس.

أما في الجيتو الذي يقمعه الإسرائيليون اليوم، فقد بلغت تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية – الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول - أنّ 1.4 مليون شخص نزحوا داخليًا، يعيش منهم 690 ألفًا في 150 ملجأ طوارئ مخصّص لوكالة الأونروا، مما يتسبّب في قلق متزايد من الاكتظاظ السكاني غير المسبوق في منطقة هي الأعلى من حيث الكثافة السكانية في العالم.

لا يسأل هؤلاء اللاجئون عن مسارح ولا ملاه ليلية، بعد أن خلّفوا وراءهم حوالى 28 ألف وحدة سكنية تم تدميرها بالكامل، و150 ألف وحدة سكنية مدمّرة جزئيًا، و219 مدرسة ومؤسّسة تعليمية سُوّت بالأرض، والأرقام على دلالتها الإحصائية الهائلة تبقى معيبة في ذاتها بسهولة الكتابة والقول، فلا تستطيع التعبير عن التلاشي والألم والمرارة.

على مواقع التواصل الاجتماعي يبث أطفال ملاجئ الأونروا، ببراءة وسخرية، مقاطع فيديو لأوضاعهم المعيشية، يعرفون غزّة لا الجيتو، ويحلمون بأن يكونوا إعلاميين في منصات شهيرة ينقلون الحقيقة للعالم، متحلّين بـ"جينات" الصمود والمقاومة، تاركين خلفهم وتحت الأنقاض كتبهم وموادهم الدراسية.

يدرس الملايين من أطفال العالم خاصة في الدول الغربية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية نخبة من حكايات "الجيتو" و"الهولوكوست" على سبيل التحذير من الفاشية والعنصرية والكراهية والتعصّب الديني. فهل تجد غزّة أصواتا تروي حكايتها للأجيال القادمة في الدول التي تواطأت ووفّرت الغطاء لكل ما شاهدناه من مجازر وجرائم حرب ضد الإنسانية؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن