ما كان يقصده العروي دون أن يصرّح به بوضوح هو التنبيه إلى الانفصام العميق الذي مسّ الشخصية العربية ما بين مشروع إيديولوجي كان في أساسه موجّهًا باعتبارات الخصوصية والذاتية القومية، وطموح تحديثي لا يمكن أن يتحقّق إلا في إطار المرجعية الإنسانية الكونية.
لقد بدأ الفكر العربي الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر مؤطرًا بإشكاليّتي النهضة والإصلاح، وهما إشكاليتان مختلفتان من حيث المضامين النظرية والقيمية، تحيل إحداهما إلى الوعي التاريخي وتحيل الثانية إلى المنظور النقدي.
لم يكن الطموح القومي متجذّرًا في الأدبيات النهضوية والإصلاحية العربية الأولى
في المسار الغربي، تمايزت الإشكاليتان فكريًا وتاريخيًا، فتحدّدت مقولة النهضة بأفق الكونيّة الإنسانية، واتّسمت مقولة الإصلاح بالثورة التأويلية للنصّ الديني، وكان عصر التنوير والحداثة نتاج هذه السيرورة العميقة المتصلة.
لم يكن الطموح القومي قويًا ولا متجذّرًا في الأدبيات النهضوية والإصلاحية العربية الأولى، فنظرت إلى العروبة من حيث هي ركيزة حضارية وقيمية للمجتمعات العربية دون أن يتبلور هذا التوجه في صياغات أيديولوجية رصينة ومتناسقة.
ومع أنّ مفكري اللحظة القومية العربية (من ساطع الحصري وزكي الأرسوزي إلى ميشل عفلق وقسطنطين فريق) تبنّوا بوضوح المفاهيم والتصوّرات الحداثية، وحافظوا على التوجّهات النهضوية الإصلاحية، إلا أنهم اعتبروا أنّ مقوّمات الهوية وبناء الأمة الواحدة لها الأولوية على محددات وخيارات البناء السياسي والمؤسّسي.
أنتجت الحداثة السياسية مفهومَيّ التمثيل والسيادة، وهما مفهومان شديدا الترابط
لقد واجه المفكّرون القوميّون معضلةً فكريةً أساسيةً تمثّلت في أنّ حركية التنوير والتحديث في أوروبا قامت في مجتمعات تشكّلت فيها دول قوميّة مركزيّة (فرنسا وبريطانيا)، في حين فشلت هذه الحركيّة في ألمانيا غير الموحّدة رغم إسهامها الفلسفيّ الثريّ في الإصلاح الديني وفكر التنوير.
لقد أدركوا أنّ النزعة القوميّة كانت في السياق الأوروبي نتاج عملية التصادم مع حداثة ليبرالية إجرائية وضعت بين قوسين المعايير الإنتمائية الخصوصية، فنشأ في البداية الشعور بالتوجّس من الديمقراطية الليبرالية من حيث كونها تكرّس الهويات القطرية الضيّقة وهي بالضرورة عقيمة وفاسدة في هذا الحيّز المحدود لكونها تحتاج عضويًا إلى إطار قومي سابق عليها.
البناء السياسي المنظّم هو شرط المرجعية القانونيّة المدنيّة للدولة الديمقراطية الليبرالية
لقد أنتجت الحداثة السياسية كما هو معروف مفهومَيّ التمثيل والسيادة، وهما مفهومان شديدا الترابط، باعتبار أنّ الدولة من حيث هي تجسيد للهوية الجماعية المشتركة تتمتع بالسيادة المطلقة، إلا أنها لم تمنح أيّ اهتمام لطبيعة المجتمع السياسي المنظّم مكتفيةً بالنظر إليه كنتاج حالة تعاقدية توافقية تأخذ شكلًا قانونيًا مدنيًا مخترعًا.
ومن هنا حدّة المشكل الذي طرح على المشروع القومي العربي، الذي وإن آمن بمعايير الحداثة السياسية، إلا أنه اعتبر أنها لا تلائم مجتمعات تفتقد إلى البناء السياسي المنظّم الذي هو بالضرورة شرط المرجعية القانونيّة المدنيّة للدولة الديمقراطية الليبرالية.
(خاص "عروبة 22")