لكنّـه قـبل ذلك، بحوالى اثـنـيْ عشر عامـًا (1967)، عـنْـوَنَ كـتابه الأوّل والأَشـهـر بـ"الإيـديـولوجيـا العربيّـة المعاصرة" (صدر بالفرنسيّـة عن دار فرانسـوا ماسـپـيرو، ثمّ نُـشِرت ترجمـةٌ عربيّـة له في بيروت في العام 1970 عن "دار الحقيقة"). وفيه تقصّى الصّـورَ المختلفة للإيـديـولوجيـا؛ التي عبّـرت بها عن نفسها في السّـياق الثّـقافـيّ العربيّ بين خواتيـم القرن التّاسع عشرومنتصـف القرن العشرين، فكانت دراسـتُـه منصرفـةً إلى إيـديولوجيّـةٍ بعينها - هي الإيـديـولوجيـا العربيّـة - لا الإيـديـولوجيـا عامّـةً بما هي قضـيّـةٌ نظريّـة: على مثال ما سيصير عليه أمرُها في كـتابه "مفهـوم الإيـديـولوجيا".
يُسـتـفاد من هـذا أنّ العروي انشـغل بسـؤال الإيـديـولوجيـا فـترةً طويـلة قبل وضْـع الكتابيـن المـومأ إليهما (في العاميـن 1967 و1979)؛ الأمـرُ الذي يدُلُّـنا عليه مستوى الرّصانـة الفكـريّـة في الكـتابين وجِـدّةُ الإشكاليّـات التي تـناولاها. ولعـلّه انشغالٌ منه بالسّـؤال تعود بداياتُـه إلى تلك الفترة من منتصف الخمسيـنيّـات، حين وجـد نفسَـه في قلب تيّـارات الفكـر والفـلسفة والإيـديـولوجيّات السّياسيّـة في فرنسا، أَيَّـانَ كان طالبـًا يتابع دراساتـه في "مدرسة العـلوم السّياسيّـة"، ابتداءً، ثمّ في قسـم التّاريخ، تاليـًا، وفي ميدان الدّراسات العربيّـة والإسلاميّـات. على أنّ اهـتجاس عبد اللّه العروي بمـفهـوم الإيـديـولوجيـا يَـرُدُّ إلى اتّصال هذا المفهـوم، في المقام الأوّل، بالسّياسة والدّولة و، بالتّالي، بالتّـاريخ؛ وهذه جميعها مفاهيم مفـتاحيّـة لولـوجِ مشـروعـه الفكـريّ، وقد تناولها بالدّرس - إلى جانب مـفـهومـيْ الحريّـة والعـقـل - في كـتـبٍ يُـفْصِـح فيها عن منظـوره التّاريخانـيّ لتشييد أساسات الحداثـة وبناء الدّولة الوطنيّـة الحديثـة.
التفكير في الإيديولوجيا لا يستقيم إلا من طريق ربطها بالمجتمع والتاريخ
ليستِ الإيـديـولوجيـا فكـرًا أو من الفـكر، عند العروي، أو قُـلْ - للـدّقّـة - إنّ هـذا (كان) معناها في كتابـه الأوّل (الإيـديـولوجيـا العربيّـة المعاصـرة) قبل أن يتغـيّـر معناها نسبـيًّا. إنّها دون الفـكر نِصـابًا ومرتـبةً إن نحـن قِسْـناها بمقيـاس اتّصالِـها بموضوعيّـة الأشياء وبمقيـاس الاِتّـساق المنهـجيّ. لذلك ليس يُـسْـتَـغْرب إطلاقُـه صفـةَ الإيـديـولوجيـا على إنتاج كلٍّ من الشّـيخ والسّياسـيّ والمشغوف بالتّـقـنـيّـة Technophile فلم يُعَـيِّـنْـهُ بما هـو فـكـر؛ إذِ الإنتاجُ هـذا يفـتـقـر، في رأيـه إلى المنظـوميّـة، من وجْـهٍ، ويسـقُـط - مـن وجْـهٍ ثـانٍ - في مَـطـبٍّ منهـجيّ: أي حين يُـلْـفي كـلُّ واحـدٍ من هـؤلاء الثّـلاثـة نفسَـه مُجيـبًا عن أسئـلةٍ يطرحـها عليه الآخـر (الغـرب)!
حين تكـون الإيـديـولوجيـا دون الفـكر مرتبـةً - كما هـي عند ماركـس والعـروي - فلا مِـرْيـة في أنّ مفـهـومـها هـذا يُـضْمِـر نظـرةً قـدْحيّـةً إليها لا يُـخطـئ النّظـرُ إدراكَـها. وهل من قـدْح في الإيـديـولوجيـا أكثر من الحـطِّ من نظرتـها إلى العالم والشّـكّ في موضوعـيّـتها؟ على أنّ العروي - مثـل ماركـس - لم يقـف عند هـذه العتبـة، التي تـقـترن فيها الإيـديـولوجيـا بالمعرفة أو، قُـلْ، بعـدم مطابَـقـةِ الفـكر للواقـع؛ إذ سرعـان ما نُـلـفيـه يصـرّح، في أكثر من موضـعٍ من كتـابـه مفـهـوم الإيـديـولوجيـا، بالقـول إنّ التّـفكـير في الإيـديـولوجيـا لا يستـقـيم إلّا من طريق ربْطها بالمجتمع والتّاريخ ووضْعها في نطاق علاقاتـها؛ أي من طريـق مبارَحـة المنطـقِ والحـقِّ (الحقـيقة) والانصـرافِ إلى الواقـع الماديّ بعيـدًا عن أسئلـة نظـريّـة المعرفـة.
يُـدرِك العروي أنّ مفـهـوم الإيـديـولوجيـا هـو، في المقام الأوّل، "مفـهومٌ اجتماعـيّ تاريـخيّ". يعني ذلك، ابـتداءً، أنّـه مفـهومٌ غيـرُ قـارٍّ على معنًـى بعيـنه يلازِمُـه؛ ويعني، ثانيـًا، أنّـه يُجـسِّـد "تـراكُـمَ مـعانٍ" مرجعُـها إلى ما يشـهد عليه - هـو كـمـفـهـوم - من تطـوُّرٍ في تاريـخه وفي دلالاتـه المتعاقبـة والمـتراكبـة. حين يكون أمْـرُ المفـهوم، يصيـر من أَوْجَـب المطلـوب معـرفـيًّا أن يُـكـتَـب تاريـخُه الذي قَطَـع شوطَـه، طـويلًا، وتَـشَـبّـع فيه بدلالاتٍ عِـدّة، من أجـل أن نُـحْسِن معرفـةَ المفـهومِ وما يعنيـه في كلِّ ميدانٍ أو عـلاقـة؛ وذلك عيْـنُ ما فعـله العروي - في مفـهـوم الإيـديـولوجيـا - حين طَـفِـقَ يعـرِّف المفهـومَ في استخدامـاته المختلفة والمتبايـنة التي مَـأْتاها مـن ذلك التّـطوّر الذي يـنـتـقـل فيـه ذلك المـفهـوم من نظامِ معـنًـى إلى آخـر.
مفهوم الإيديولوجيا شديد الحضور والتداول في حقولٍ معرفيّة متباينة
وقـف العروي، بالتّخصيص، على معانـيَ واستـخدامات ثـلاثـة لمفهـوم الإيـديـولـوجـيا: على الإيـديـولوجيا في استخدامها السّياسيّ، بما هـي (والكـلامُ للعـروي) "مجمـوع القيـم والأخـلاق والأهـداف" التي يـنوي حـزبٌ سياسـيّ مّـا، مـثـلًا، تحـقيـقها؛ ووقـف عليها في استخـدامها الاجـتماعـيّ التّـاريخـيّ؛ حيث تكـون "أُدلوجـةُ عصـرٍ من العصـور هـي... الأفـق الذّهـنـيّ الذي كان يحُـدّ فـكـرَ إنسان ذلك العصـر"؛ ثمّ تَـناولها في استخـدامها المعــرفـيّ؛ حيث "يُـقابِـل مفهـومُ الأدلوجة مفـهـومَ الحـقّ"؛ أي باعتبار أنّ "الحـقّ - يقـول العروي - هـو ما يطابِـق ذات الكـون، والأُدلـوجـة ما يطابـق ذات - الإنسـان - في الكـون"؛ ولذلك يشدّد على أنّـه "يتعارض الـفكـرُ الأُدلـوجيّ مع الفـكر الموضوعـيّ" منظـورًا إليهما من زاويـة نظـريّـة المعرفة؛ حيث الرّائـزُ الذي تَـرُوزُ بـه المسألة هـو مـدى مطابقـة الإيـديـولوجيـا للواقع أو عـدم مطابقـتها له.
نحن، إذن، مع العروي ودراسته، أمام معانيَ ثلاثـةٍ لمفهـوم الإيـديـولوجيـا؛ حيث لكـلّ استخـدامٍ ميـدانٌ خاصٌّ بـه تـتـشـكّـل فيه دلالـتُه. هكذا نجـد أنّ مجال الاستخـدام الأوّل هو مجـال "المناظـرة السّياسيّـة" أو السّجـال؛ ومجال الاستخـدام الثّاني "المجتمع في دورٍ من أدواره التّـاريخيّـة"؛ أي في وضْـعٍ تاريـخيّ تسود فيه قيـمٌ مشتركـة ورؤًى مشتَـركة؛ ثم مجـال الاستخـدام الثّالـث هـو "مجـال الكائـن" والمعرفـة. لا غـرابة، إذن، في أن يكـون مفـهوم الإيـديـولوجيـا شديدَ الحضـور والتّـداول في حقـولٍ معرفيّـة متبايـنة: في الفلسـفة؛ في الإيـپـيـستيـمولوجيـا ونظريّـة المعرفـة؛ في علـم السّياسـة وعلـم الاجتماع السّياسـيّ.
(خاص "عروبة 22")