في مجتمع تكاد السياسة فيه أن تلفظ أنفاسها بالاختناق يتبدى تسييسًا لافتًا بالشوارع والمنتديات العامة والخاصة المصرية. لا قضية تعلو فوق غزّة وما يحدث فيها من جرائم حرب بشعة.
بقوة التداعي العام تنتشر نداءات مقاطعة البضائع الأمريكية، كما لم يحدث من قبل، دون أن تكون هناك جهة منظّمة معلومة.
أجيال جديدة في مقتبل أعمارها تجد هويتها في عروبتها وبوصلتها في القضية الفلسطينية.
إنه تسييس القلق والشعور العميق لدى المواطن العادي، الذي أعاد اكتشاف هويته العربية تحت نيران حرب الإبادة في غزة.
هناك فارق جوهري بين تسييس البرامج والأفكار وتسييس القلق والغضب.
الأول، يتعلّق بسلامة، أو اعتلال الحياة السياسية.
والثاني، يعكس ما في بنية المجتمع من تفاعلات وتساؤلات تتعلّق بمصيره.
إننا أمام أوضاع وتفاعلات توشك أن تعلن عن حقائقها الجديدة.
في مساجلات شبكات التواصل الاجتماعي تنخرط أعداد غير مسبوقة من الشباب العربي، من داخل أوطانهم وخارجها، للدفاع بلغة العصر ووسائله عن عدالة القضية الفلسطينية بالحجة والبرهان.
"إن أعدادهم كبيرة، لا تتركوا هواتفكم". هكذا كتب ناشط موالٍ لإسرائيل أزعجته المعلومات والشرائط المتدفقة التي تشرح المأساة الفلسطينية.
إنه جيل جديد يولد من تحت نيران غزة.
على وقع نكبة (1948)، قبل خمسة وسبعين عامًا، سادت العالم العربي تساؤلات غاضبة عن أسبابها ومن يتحمّل مسؤوليتها.
ظلّت القضية الفلسطينية في أحلك الأوقات وحدة القياس الرئيسية للسياسات والمواقف والنظم والرجال
بتعبير الشهيد أحمد عبدالعزيز قائد المتطوعين المصريين في حرب فلسطين: "التغيير يبدأ من القاهرة".
عندما عاد جمال عبدالناصر من الحرب شرع في إعادة بناء تنظيم "الضباط الأحرار"، الذي أطاح النظام الملكي في (23) يوليو (1952).
بعد سنوات قليلة من النكبة تغيّرت الخريطة العربية، معادلاتها ونظمها وسياساتها.
هكذا ولد جيل اكتسب وعيه العروبي تحت نيران حرب فلسطين.
إثر نكسة (1967) ولد جيل آخر يطالب بالمشاركة السياسية وتصحيح الأسباب التي أدت إلى الهزيمة العسكرية. تظاهر في الجامعات المصرية داعيًا إلى تعبئة كل الموارد والطاقات لخوض معركة تحرير الأرض المحتلة، ضحّى بحياته كلّها لست سنوات في الخنادق الأمامية حتى يكون النصر مستحقًا بأكتوبر (1973) قبل أن تخذل السياسة بطولة السلاح.
كانت القضية الوطنية جوهر تجربة جيل السبعينيات.
رغم التحوّلات والتقلّبات الاستراتيجية ومشروعات التطبيع المجاني ومحاولات تكريس ثقافة الهزيمة بالعالم العربي، ظلّت القضية الفلسطينية في أحلك الأوقات وحدة القياس الرئيسية للسياسات والمواقف والنظم والرجال.
قرب مطلع قرن جديد عمّت تظاهرات الغضب الشوارع المصرية تضامنًا مع الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي جرى اغتياله يوم (30) سبتمبر (2000) برصاص قوات الاحتلال، وهو يحتضن والده مرتجفًا من فرط الترويع.
كانت تلك إشارة أنّ هناك جيلًا جديدًا يوشك أن يولد.
بقوة تأثير شريط فيديو لدقيقة واحدة التقطه مصوّر تلفزيوني فرنسي التهبت المشاعر، شعر كلّ طفل كأنه هو الذي أُطلق عليه الرصاص، وكلّ أب كأنه فقد صغيره دون ذنب.
تسابق أطفال المدارس في رسم علم إسرائيل على قمصانهم الداخلية قبل حرقها، لم يكن لديهم ما يكفي من نقود لشراء قماش يرسمون عليه ما يريدون حرقه.
لم يتوقّع أحد بعد سنوات طويلة من معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية أن تستقطب عدالة القضية الفلسطينية مشاعر وانحيازات جيل جديد لم يعاصر المواجهات العسكرية، التي جرت قبل أن يولد، ولا خبر بنفسه طبيعة الصراع العربي – الإسرائيلي، وقيل له في المقرّرات الدراسية إنّ سلامًا قد جرى!
في فوران الغضب طالب القادمون الجدد إلى الحياة العامة بوقف التطبيع مع إسرائيل وطرد سفيرها من القاهرة.
بعد عشر سنوات عاد "تلاميذ المدارس" إلى الشوارع مرّة أخرى، وقد أصبحوا شبانًا يتطلّعون إلى أن تلحق بلادهم بالعصر دولة ديمقراطية ومدنية حديثة.
استلفتت تلك الملاحظة الأديبة الراحلة رضوى عاشور.
هكذا بدا فوران الغضب مطلع أكتوبر (2000) كإشارة ونبوءة تغيير لما سوف يحدث في "يناير" (2011).
شيء مشابه يحدث الآن، بصورة أكبر وأوضح.
بتوصيف مفوّض اللاجئين فإنّ غزّة تحوّلت إلى جحيم على الأرض لـ(2.3) مليون فلسطيني نصفهم من النساء والأطفال.
وبحسب "اليونيسيف" فإنّ غزّة تحوّلت إلى مقبرة جماعية تضم آلاف الأطفال، لا طفلًا واحدًا مات في أحضان والده.
فلسطين لن تعود كما كانت، ولا العالم العربي سوف يواصل أحواله كما لو كانت حرب الإبادة لم تحدث
المأساة الفلسطينية بصورها وتفاصيلها والتواطؤ الدولي عليها يثير الاستفزاز بالمعنيين العروبي والإنساني، والصمود تحت القصف اليومي يلهم فكرة المقاومة.
وكان تخاذل النظم العربية داعيًا إلى طرح الأسئلة الوجودية على شوارع عربية محبَطة: هل نحن بشر يستحقون الحياة في بلادهم بكرامة وحرية. أم "حيوانات بشرية" على ما قال وزير الدفاع الإسرائيلي دون أن يوبّخه الغرب المتحضّر على لغته العنصرية الفجّة؟!
بعد أن تنقضي الحرب على غزّة بكل تضحياتها وبطولاتها وجراحها ومآسيها فإنّ فلسطين لن تعود كما كانت، ولا العالم العربي سوف يواصل أحواله كما لو كانت حرب الإبادة لم تحدث.
كل شيء سوف يتغيّر بعد وقت أو آخر.
من تحت ركام المأساة يولد جيل فلسطيني جديد أكثر صلابةً واستعدادًا للتضحية من أجل اكتساب حقّه في تقرير مصيره.. ويولد جيل عربي جديد تأكّد بنفسه أنّ كلمته لن تكون عابرة في تقرير المستقبل.
(خاص "عروبة 22")