ويرى البعض خلافًا لما سبق، أنّ هذه الكيانات مؤقتة، تعيش في الوقت الضائع الذي يتم تمريره بالتواطؤ من جانب أطراف فعّالة ومؤثّرة في الموضوع السوري قبل أن يتم الاتفاق على حل شامل، يتضمن ويحقق، كما يعتقد أصحاب هذا الرأي، استعادة وحدة الكيان السوري، ويدعم هؤلاء رؤيتهم، بالقول إنّ من الصعب رسم خرائط جديدة في المنطقة، مما يعني تفتيت كياناتها جميعًا، وتوسيع التناحرات، التي تؤخّر أي توافقات داخلية وبينية، تقود إلى الاستقرار في منطقة هشّة، وحولها لاعبون في الإقليم ودول كبرى متصارعة متعادية.
غير أنه وقبل المضي في تناول مستقبل كيانات الأمر الواقع، لا بد من مرور سريع على ملامحها الأساسية مثل الحجم والإدارة والعلاقات والآفاق التي تتطوّر من خلالها، وثمّة مستويان في ذلك، أولهما ملامح عامة تجمع الأطراف الثلاثة، والثاني ملامح خاصة، تتعلّق بتفاصيل كل واحد من الكيانات.
خلفيات تشكّل سلطات الأمر الواقع رسمت لها حدود استمرارها من خلال إتاحة خط موارد يساعدها على البقاء
ولعلّ الأهم في الملامح المشتركة، أنّ الكيانات جميعًا، ولدت في أتون الحرب، بل عشية وصول الحرب إلى انسداداتها الحالية، التي منعت ذهاب سوريا والسوريين إلى حل حاسم، يذهب بنظام الأسد، أو يبقى عليه، مما جعله يتحوّل إلى سلطة أمر واقع مثل شقيقته في شرق الفرات تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، والثانية في منطقة الشمال الغربي تحت سيطرة تركيا، وفي الملامح المشتركة، إنّ السلطات الثلاث واجهة لقوى خارجية تتحكّم فيها، حيث تتحكم إيران وروسيا والمليشيات الشيعية بالمنطقة الموصوفة بأنها منطقة سيطرة نظام الأسد، ومثل ذلك منطقة شمال غرب سوريا، التي تبدو فيها قوى السيطرة المحلية من الجيش الوطني والحكومة المؤقتة وهيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ مجرّد واجهة للسيطرة التركية، وتمثّل الولايات المتحدة قوة السيطرة الخارجية الرئيسية على منطقة شرق الفرات، التي تديرها "قسد" والتي تخضع وترتبط أيديولوجيًا وسياسيًا وتنظيميًا مع حزب العمال التركي (PKK) المتمركز في جبال قنديل في شمال العراق، كما أنّ بين الملامح المشتركة، كون السلطات الثلاث، لا ترتبط بأي شكل من الأشكال مع إرادة شعبية ولا بممثليات ديمقراطية منتخبة، إنما تتناقض كل واحدة منها في التوجهات والسياسات مع غالبية الذين تحكمهم وتسيطر عليهم، مما يجعل الهوة بين سلطات الأمر الواقع ومحيطها آخذة في الاتساع، وثمة نقطة إضافية في الملامح المشتركة، مكرّسة في غياب استراتيجية للحكم سوى الحفاظ عليه بأي ثمن، بما فيه انتشار الفساد، ورسوخ سلوكيات السلطة الغاشمة.
وسط الملامح المشتركة في سلطات الأمر الواقع، تبدو الملامح التي تميّز كل واحدة كثيرة نظرًا للتفاصيل المحيطة، المتعلّق بعضها بالخصوصيات المحلية، أو بخصوصيات القيادة في تنظيماتها أو شخصياتها، وبسبب الكثرة والتنوّع، قد يكون تناول موضوع اختلاف موارد الدخل في كل واحد من كيانات الأمر الواقع وطريقة التصرف بها مثالًا حافلًا بتفاصيل مهمّة.
تأتي الموارد الأساسية في تمويل نظام الأسد من مسارين مختلفين، أولهما سياسة التصرّف والتفريط بالأصول والموارد السورية الأساسية من خلال اتفاقيات وعقود مع دول أجنبية، وخاصة إيران وروسيا، وقد شملت الموانئ والقواعد البحرية والمطارات والثروات الاستخراجية ومنها الفوسفات، إضافةً إلى أنشطة كانت محتكرة للدولة منها الكهرباء، وقد تمّ ربط أغلب الأصول والموارد الأساسية مع إيران وروسيا لتغطية مساعدات وقروض حصل عليها النظام في سنوات العقد الماضي، أو للحصول على أموال جديدة، تغطي ضعف الموارد المحلية، والمسار الثاني، عبر سياسة نهب تطبّق رسميًا على السكان وعلى الفعاليات الاقتصادية، حيث تتزايد الضرائب والرسوم، وتفرض الخاوات، وتطبّق أعمال المصادرة، وعمليات الابتزاز حيال الفعاليات الاقتصادية، وكلّه يضاف إلى توسيع شبكة إنتاج وترويج وتصدير المواد المخدّرة ومنها "كبتاغون" الذي بات يدرّ عشرات مليارات الدولارات، يتم اقتسامها بين السلطة وكبار النافذين فيها.
والموازي في موارد سلطة الأمر الواقع في شمال غرب سوريا تحت السيطرة التركية، يبدأ من موارد المعابر الموزّعة على مستويين، الأول معابر قائمة داخل منطقة السيطرة التركية، حسب الجهة المسيطرة فيها، والمستوى الثاني تندرج فيه المعابر، التي تربط شمال غرب سوريا بمحيطها في الاتجاهين وخاصة تركيا، وهو ما جعل المعابر منجم ذهب، يدرّ أموالًا كثيرة على القوى المسلّحة في المنطقة، يضاف إليها موارد الرسوم والضرائب، التي تفرضها القوى النافذة، كل من جانبه حتى في موضوع واحد، وهناك كثير من الموارد "السوداء" القادمة من شبكات الفساد والخاوات والرشاوى، وعمليات الاتجار بالمخدرات والبشر.
إنّ المميّز في موارد سلطات الأمر الواقع هي موارد شرق الفرات تحت سيطرة "قسد"، وتمثّل الخزّان الرئيس لثروة سوريا، حيث فيها نحو ثمانين بالمائة من النفط وعشرين بالمائة من الغاز، وهي المنطقة الرئيسية في زراعة الحبوب ومركز زراعة القطن، وفيها جزء مهم من الثروة الحيوانية، وجميعها صارت تحت سيطرة "قسد"، يضاف إليها الموارد التقليدية من ضرائب ورسوم، وموارد سوداء من خاوات ورشاوى واتجار بالمخدرات، وكلّها تعزّزت، وجرى تعميمها في أنحاء سوريا وسط بيئة الحرب، واختصت سلطة شرق الفرات بنوع جديد من الموارد، وهو الاستيلاء على أملاك الغائبين الذين نزحوا أو تم تهجيرهم بسبب الحرب إلى مناطق أخرى أو إلى خارج سوريا.
خروج القوى الخارجية من سوريا سوف يغيّر سلطات الأمر الواقع من الناحية الشكلية على الأقل
إنّ خلفيات تشكّل سلطات الأمر الواقع في البعدين السياسي والأمني، رسمت لها حدود استمرارها من خلال إتاحة خط من الموارد، يساعدها على البقاء، وهذا لم يكن ممكنًا إلا بوجود قوة حماية، أعطتها شروط الصراع السوري وعلى سوريا، قوة الوجود في سوريا، والتي تتجسّد حاليًا بكل من روسيا وإيران من جهة، ثم الولايات المتحدة وتحالفها الدولي المقنّع بهدف محاربة "داعش"، ثم تركيا، وقد جعلت تلك الأطراف من سلطات الأمر الواقع في مناطق سوريا الثلاث الغطاء الذي يبرّر وجودها سواء من خلال شرعية مزعومة يعطيها نظام الأسد للوجود الروسي والإيراني، أو من خلال مبرّرات الأمن القومي التركي في شمال غرب سوريا، والولاية الأميركية المفروضة على العالم مثالها في شرق الفرات وقاعدة التنف.
خلاصة القول في كيانات الأمر الواقع لجهة وجودها واستمرارها، فإنها مرتبطة بالقوى الخارجية، وخروج هذه القوى من سوريا نتيجة اتفاقات أو صراعات عنيفة، سوف يغيّر تلك السلطات من الناحية الشكلية على الأقل، بل إنه سيجعل آثار سياساتها ومخلّفاتها موضع بحث وتدقيق وتبديل، وغالبًا مواجهة من القوى المتضرّرة في الداخل والخارج، ولا شك أنّ هذا النسق من احتمالات كيانات الأمر الواقع وسلطاتها والقوى الداعمة لها، بين أسباب تدفعها عمليًا للسعي نحو إيجاد حل في سوريا، تتوافق فيه مصالح السوريين المباشرة من جهة والمصالح الأبعد للقوى المتدخّلة في سوريا، إنه الاختبار والاختيار الذي يخرج بالجميع من البؤرة الكارثية التي صار إليها الوضع السوري بكل تعقيداته وكارثيّته.
(خاص "عروبة 22")