صحافة

هل ينقذ مجلس الأمن سوريا من احتمال تجدد الصراعات الداخلية؟

بكر صدقي

المشاركة
هل ينقذ مجلس الأمن سوريا من احتمال تجدد الصراعات الداخلية؟

بصدور البيان الرئاسي لمجلس الأمن بخصوص سوريا، في أعقاب مجازر السويداء، عادت المشكلة السورية إلى لحظة سقوط نظام الأسد في مطلع كانون الأول 2024. كان الاحتضان الأمريكي ـ التركي ـ الأوروبي ـ الخليجي لسلطة هيئة تحرير الشام قد منح الأخيرة فرصةً للتملص من قرار مجلس الأمن 2254 الصادر في العام 2015، على أن تقوم بالإيفاء بمقتضياته: إقامة سلطة انتقالية تشاركية تراعي التنوع السياسي والديني والطائفي والإثني والمناطقي في سوريا، تمهيداً لانتقال سياسي ديمقراطي، بالتوازي مع رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا في السنوات والعقود السابقة، للبدء بورشة إعادة إعمار وانتشال البلد المدمر من الحضيض وتأسيس دولة سورية جديدة تكون على النقيض من النظام الأسدي الذي أكل نصف عمر الكيان السوري.

طوال الأشهر الثمانية من حكم "هيئة تحرير الشام" تم العمل بخلاف هذا التوجه على طول الخط، فأهدرت تلك الفرصة بسبب إساءة قراءتها للاحتضان المشار إليه واعتباره شيكاً على بياض يمنحها إمكانية فعل ما تشاء إزاء المحكومين، طالما راعت الشرط المتعلق بإسرائيل و"هواجسها" الأمنية! وخيّل إليها أن رعاتها الإقليميين والدوليين سيغضون النظر عن استفرادها بالسلطة، وانتهاكاتها بحق السكان، واندفاعها للاستيلاء على الأصول الاقتصادية، وصولاً إلى حملات الإخضاع بالعنف للمكونات الوطنية غير الراضية عن استفرادها بالسلطة والثروة وسعيها الحثيث لفرض إيديولوجيتها. وخسرت سوريا ثمانية أشهر كان من المحتمل أن تنجز خلالها الكثير من الاستحقاقات التي لا مفر منها من أجل استعادة الاستقرار.

الآن وقد أهدرت السلطة تلك الفرصة استعاد مجلس الأمن توافقه على وجوب المضي في تطبيق قراره الصادر قبل عشر سنوات، 2254، الذي كان نظام الأسد قد عرقل تطبيقه في حينه بدفع من ظهيره الإيراني وحماية من حليفه الروسي، مقابل فتور حماسة الأمريكيين والأوروبيين في الضغط من أجل تطبيقه، مسلمين أمر سوريا لروسيا وضمناً إيران حين كانت هذه قوة إقليمية كبيرة. أما وقد انهارت هذه القوة في المشرق العربي، وانكفأت روسيا على نفسها بعد ورطتها في أوكرانيا، وتحولت إسرائيل إلى مخلب فتاك بيد واشنطن لهندسة الإقليم بالقوة العارية، فلم تعد سلطة دمشق تملك رفاهية تجاهل بيان مجلس الأمن الجديد الذي يعيد التأكيد على القرار 2254، والاكتفاء بالدعم التركي ـ الخليجي. فهذان الداعمان نفسيهما لا يملكان رفاهية الخروج على الاستراتيجية الأمريكية بشأن سوريا ومحيطها الإقليمي.

ثمة تفصيل غريب بشأن الدور التركي في سوريا يتعلق بهاجسها التقليدي المتعلق بكرد سوريا. ففي الوقت الذي تمضي فيه الدولة التركية بثبات في مشروعها التاريخي للمصالحة مع كردها، تعود إلى تكرار ضغوطها على كرد سوريا لدفعهم في اتجاه الاستسلام لسلطة دمشق بلا شروط، في الوقت الذي أثبتت فيه تلك السلطة فشلها في التعاطي مع المكونات الوطنية، مرة مع العلويين في مناطق الساحل، وأخرى مع الدروز في الجنوب. وفي الوقت الذي تتواصل فيه اجتماعات "اللجنة الوطنية للتضامن والأخوّة والديمقراطية" (لجنة برلمانية تشكلت من ممثلي الأحزاب السياسية في البرلمان) لبلورة حل سياسي للمشكلة الكردية المزمنة في تركيا، بعدما حل حزب العمال الكردستاني نفسه وتخلى عن السلاح، يعود وزير الخارجية هاكان فيدان إلى لغة التهديد تجاه قسد طالباً منه "الالتزام باتفاق العاشر من آذار" في قراءة تركية لنصه تفترض تماثلاً مع الصيغة التركية، دون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف "نظام" "هيئة تحرير الشام" قيد التشكل عن "سيستم" الدولة التركية راسخة الجذور القائم على دعامتي الديمقراطية والعلمانية.

ففي تركيا ما يبرر حل حزب العمال الكردستاني لنفسه والاندماج في الدولة التركية من خلال القنوات السياسية المتاحة (أحزاب سياسية، برلمان تمثيلي، إعلام حر، مؤسسة قضائية راسخة… على رغم كل عيوبها) في حين أن سلطة دمشق هي سلطة أقلية ترفض المشاركة في تأسيس الدولة وتتعاطى مع المكونات بعقلية الإخضاع بالقوة، فضلاً عن ثبوت فشلها في أبسط أمور إدارة الدولة. فلا شيء يمكن أن يشجع قسد في سوريا على اتباع مسلك حزب العمال الكردستاني في التعاطي الإيجابي مع مبادرة دولت بهجلي. هذا من غير التذكير بأن قسد ليس ممثلاً للكرد فقط، بل هو تحالف عسكري يضم عرباً وسرياناً وعشائر من المناطق الشرقية، وإن كانت القيادة الفعلية بيد حزب الاتحاد الديمقراطي.

وإذا راقبنا تعامل سلطة دمشق مع قسد، في الأشهر الأولى بعد سقوط نظام الأسد، لرأينا تعاطياً واقعياً إلى حد كبير وصولاً إلى توقيع اتفاق العاشر من آذار بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، فيما أنعش شيئاً من التفاؤل بين السوريين بعد نكسة مجازر الساحل. ثم تعزز هذا التفاؤل من خلال البدء بتطبيق بنوده من حيي الأشرفية والشيخ مقصود في اتفاق الأول من نيسان بين الجانبين. من الواضح اليوم أن التوتر هو الوصف الصحيح لهذه العلاقة. فمفاوضات «تنفيذ اتفاق آذار» متعسرة، انتقلت من دمشق إلى باريس، ورفضت دمشق المشاركة في اجتماع باريس، وحدثت في موازاة ذلك اشتباكات ـ محدودة إلى الآن ـ في شرق حلب، وتعزيز قوات "الأمن العام" في محيط الحيين الكرديين في مدينة حلب فيما ينذر بتصعيد جديد ليس من مصلحة أحد. من الواضح أن تركيا تضغط على سلطة دمشق لدفعها للتصلب مع قسد. هذا هو الأمر غير المفهوم من دولة بدأت خطوات شجاعة لحل مشكلتها الكردية في الداخل، مع بقاء سياستها تجاه كرد سوريا على ما كانت عليه طوال السنوات السابقة.

في غياب استخلاص سلطة دمشق لأي دروس من مجازر الساحل والسويداء وتفجير كنيسة مار الياس في دمشق، يبقى العامل الحاسم في تقرير مصير السوريين هو مدى عزم المجتمع الدولي في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 تجنباً لانطلاق صراعات جديدة تدمر ما لم يدمره نظام الأسد.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن