الحاصل أنّه منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تزامنت كثافة النيران من البر والبحر والجو بين الطرفين، وإن بموازين قوى معتلّة، مع كثافة في إنتاج وترويج أحجام ضخمة من المعلومات والمعطيات والأخبار، بكلّ أنواعها وأشكالها، المكتوب منها، كما المسموع، كما المرئي على حد سواء.
ويبدو أنّ الفارق بين ما يجري اليوم على تخوم غزّة أو من بين مبانيها وأزقّتها، وبين الحروب السابقة، أنّ المعلومة لم تعد جزءًا من حرب إعلامية عهدناها، بل باتت جزءًا من حرب تقتني الشبكات، أو تتخذ منها بنية لإنتاج وتوزيع واستهلاك المعلومة إياها على نطاق واسع. ولذلك، فإنّ الحرب على غزّة هي بدون منازع من أولى الحروب الدائرة رحاها الإعلامية عبر الشبكات والمنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
ملايين "الرواد الذاتيين" يتقاسمون أفكارهم وانطباعاتهم بفضل حواسيب وهواتف تنقل الخبر بالصوت والصورة في آنيّته
من دون شك أنه لا يزال للفضائيات التلفزيونية الكبرى اعتبار ووزن في تغطية مجريات الأحداث، بالمباشر الحيّ وبعين المكان في الغالب الأعم. لكنّها لم تعد بمقام أن تجاري، فما بالك أن تنافس المحتويات والمضامين التي تفرزها المنصات الرقمية، ويثوي خلفها "منتجون" لا ينتمون بالضرورة للحقل الإعلامي التقليدي، أو سبق لهم أن خضعوا لدورات تكوينية تمنحهم سُبُل التمرّس وأدبيات إتقان المهنة.
إنّ ملايين التغريدات على منصة "إكس"، والتدوينات على "فايسبوك"، والفيديوهات على "يوتيوب"، والتي غطّت وتغطي جميعها مجريات الحرب على غزّة بالكلمة والصوت والصورة، ليست من "صنع" إعلاميين أو صحفيين أو معلّقين محترفين. إنّها في جزء كبير منها إنتاج الملايين من "الرواد الذاتيين"، الذين يتقاسمون أفكارهم وانطباعاتهم ومواقفهم بفضل حواسيب وهواتف نقّالة، تنقل الخبر بالصوت والصورة، في آنيّته، مع إتاحة إمكانية التعليق عليه أو التفاعل معه.
هم بذلك إنما يتجاوزون على الرقابة الممارسة على الإعلام التقليدي وعلى تراتبية المواد التي يستوجبها الإعلام ذاته، فيقدّمون مضامين خامًا، موجهة لجمهور واسع بغرض التأثير فيه أو "استدراجه" أو استقطابه أو إقناعه أو استدرار تعاطفه، لكن برسالة موجّهة مضمرة، تعبّر عن الموقف ولا تلتف على الحدث.
المقاومة وضعت فلسطين على خارطة العالم من جديد وأبانت للكلّ بأنها صاحبة حق لا يمكن مصادرته
هي إذن منصات غايتها إنتاج المعلومات من بين ظهراني الشبكات الرقمية وتوزيعها على نطاق واسع، لكنها تحولت في الحرب على غزة، إلى ساحات تطاحن على أساس من ثلاث خلفيات كبرى:
- لقد تحوّلت إلى ساحة حرب سيميائية بامتياز، بين من يرى في عملية "طوفان الأقصى" إرهابًا مدانًا أو يجب أن يُدان، وبين من يرى فيها فعلًا مقاومًا مشروعًا يجب أن يُحتضن. ويبدو أنّ المقاومة قد ربحت هذا الرهان، إذ على الرغم من استمرار اعتقاد البعض بأنّ المقاومة فعل إرهابي، فقد أبان سلوكها وسقف مطالبها أنها حركة تحرّر حقيقية.
- وتحوّلت إلى حرب سرديات بين من يرى في فلسطين أرض الرباط، وبين من يرى فيها أرض الميعاد. المقاومة هنا وضعت فلسطين على خارطة العالم من جديد وأبانت للكلّ بأنها صاحبة حق لا يمكن مصادرته حتى وإن قبلت مؤقتًا بتحصيل جزء منه فقط.
- ثم هي حرب أخلاقية أيضًا، بين من يدّعي كذبًا وتضليلًا بأنّ المقاومة قطعت الرؤوس واغتصبت النساء، وبين واقع أثبت بالصوت والصورة في حال الأسيرات، بأنه ليس من أخلاق المقاومة أن تنكّل بأعدائها أو تهينهم.
(خاص "عروبة 22")