تقدير موقف

نيويورك: حصاد المقاومة!

"مكافأة لحماس"، هكذا علّق بنيامين نتنياهو على "مؤتمر نيويورك للقضية الفلسطينية" الذي عُقد في الأمم المتحدة قبل أيام بدعوةٍ وجهدٍ ديبلوماسيَيْن مُقدّرَيْن لفرنسا والمملكة العربية السعودية، كما كان هو الردّ الإسرائيلي ذاته؛ المحفوظ والمكرّر على ما شهده المؤتمر (وتَواكب معه) من إعلاناتٍ لدولٍ غربيّةٍ عدّةٍ عن نيّتها الاعتراف (أخيرًا) بدولة فلسطينية "مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة".

نيويورك: حصاد المقاومة!

"مكافأة لحماس"... هكذا يقول بنيامين نتنياهو، ولعلّه في هذه المرة "صدق وهو كذوب". إذ يبقى من الصحيح، سواء اعترفنا أو لم نعترف، أنّ ما شهدته نيويورك قبل أيامٍ من إعادة وضع الورقة الفلسطينية على الطاولة الدوليّة هو نتاج (ولا أقول: مكافأة) لما فعلته ودفعته "المقاومة" وشعبها بداية من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي يطلبون منّا، هكذا بكلّ تبجّح إدانته، تجاوزًا لكلّ حقائق الصراع وتاريخه الطويل المضرّج بالقهر والدماء.

واقعيًّا، كانت أوسلو (1993)؛ التي كان من المفترض أن تؤدّي "عبر مفاوضات الوضع النهائي" إلى دولةٍ خلال خمس سنوات، قد ماتت، بعد ما يزيد على ثلاثين عامًا من المتاهات الإسرائيلية المُعتادة المتّشحة بثيابٍ ديبلوماسية. وعلى منصّة الأمم المتحدة ذاتِها، التي يُعقد فيها اليوم مؤتمر لإحياء القضية، كنّا قد شاهدنا بنيامين نتنياهو في سبتمبر/أيلول 2023 يُعلن موتها، إيذانًا بخرائط جديدة لشرق أوسطٍ جديدٍ "لا مكان فيه للفيتو الفلسطيني"، هكذا قال يومها حرفيّا. وحدها المقاومة بعد خطابه الاحتفالي المُتعجرف بأيام، أعلنت أن القضية لم تنتهِ، مُذكّرةً العالم؛ الذي لا يبحث إلّا عن الاستقرار (لا العدل) ضمانًا لمصالحه: "أن لا استقرار مع هكذا هيمنةٍ إسرائيليةٍ تُصادر الحقوق والعدل والسلام الحقيقي".

لو لم يفعل الفلسطينيون ما فعلوه لما ذهب المجتمعون إلى نيويورك ليبحثوا عن نهاية "عادلة"

صحيحٌ أنّ المقاومة؛ بكلّ أطيافها ومعها شعبها، دفعت الثمن باهظًا، ولكنّ الأحرار يعلمون أنّ "لِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ… بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ"، رحم الله أمير الشعراء.

لم يشهد التاريخ مقاومةً بلا ثمن. دفعت الجزائر مليون شهيد، أو ربّما أكثر لتحصل على استقلالها، كما دفع المقاومون والمدنيون في ستالينغراد الثمن ذاته أمام الحصار النازي الذي لم يعرف هوادةً ولا رحمة. وعانى البريطانيون والفرنسيون الجوع أثناء مقاومتهم لهتلر إبّان الحرب العالمية الثانية.

هكذا تعلّمنا من كتب التاريخ، وهكذا علّمنا الفلسطينيون في غزّة، الذين لو لم يفعلوا ما فعلوه (ودفعوه)، لَما ذهب المجتمعون إلى نيويورك ليبحثوا عن نهايةٍ "عادلةٍ" لِما لا يمكن أن ينتهيَ إلّا بإقرار حقّهم المشروع في "دولةٍ" ذات سيادة.

القضية تُسحب للمرة الأولى من المحكمة الأميركية التي انفردت بالوساطة غير النزيهة منذ كامب ديفيد

لا تستهينوا بما جرى في نيويورك. فها هي القضية تُسحب للمرة الأولى من المحكمة الأميركية، التي انفردت بالوساطة (غير النزيهة) منذ كامب ديفيد (1978)، مرورًا بوادي عربة (1994)، وإعلان المبادئ (1993)، وغيرها ممّا خضع لقاعدة التسليم بمقولة "إنّ الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق اللعبة".

نحن الآن في الأمم المتحدة حيث عُقد المؤتمر "رفيع المستوى" ليخرج علينا بما سمّي "إعلان نيويورك"New York Declaration on the Peaceful Settlement of the Question of Palestine and the Implementation of the Two-State Solution، الذي تمّ إرساله إلى الدول الأعضاء "لإبداء رغبتها في تأييد الوثيقة بحلول الخامس من هذا الشهر (الوثيقة الرّسمية للإعلان، وملاحقه في هذا الرابط)".

ما شهدناه في نيويورك أعاد "القضية" في القاعة ذاتها التي كان نتنياهو قد وقف فيها ليُعلن أنّها قد "انتهت"

لم يكن هناك أدنى شك في أنّ إسرائيل، ومعها أميركا بالطبع، سترفض "إعلان نيويورك" هذا جملةً وتفصيلًا. كما لا يحتاج الأمر إلى أكثر من تدبّر ما جرى من إغراقٍ لمسيرة أوسلو في بحر الألاعيب الإسرائيلية، لمعرفة أنّ تنفيذ ما ورد في إعلان نيويورك على الأرض دونه ما لا يمكن إزالته من عقبات أميركية/إسرائيلية، ولكنّ هذا لا ينفي أنّ ما جاء به الإعلان؛ غير المسبوق بالنّظر إلى طبيعة المشاركين فيه (بينهم بريطانيا العظمى صاحبة "وعد بلفور")، لم يكن ليصدر لولا ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه من تضحيات.

صحيحٌ أنّ "إعلان نيويورك" لا يمثّل أيّ قوةٍ ملزمة، تضمن تطبيق أيّ تفصيلة فيه على الأرض، كما أنّ إسرائيل، الطرف الرئيس في الصراع (وبخلاف أوسلو)، غير مشاركةٍ فيه، بل ورفضته ابتداءً، حتّى قبل أن يذهب المجتمعون إلى نيويورك. لا تنسوا أن إسرائيل، التي شاركت (ووقّعت) على اتفاقات أوسلو، نجحت في إجهاضها في نهاية المطاف.

وصحيحٌ أنّ الشيطان، الذي يكمن كعادته في التفاصيل، اعتاد الاختفاء في أضابير ملفات الديبلوماسية، وخلف أقنعة الديبلوماسيين.

وصحيحٌ أنّ معظم وعود الاعتراف الغربيّة جاءت "مشروطةً"، أو في عباراتٍ "زئبقيةٍ" فضفاضةٍ، ممّا يترك الباب مُواربًا للتملّص من مسؤولية هكذا تصريحات كانت لازمة مع صور المجاعة والدمار. البريطانيون مثلًا قالوا إنهم سيعترفون في سبتمبر/أيلول، "ما لم تتّخذ الحكومة الإسرائيلية الإجراءات اللّازمة لإنهاء الوضع المروِّع في غزة"(!).

كلّ هذا صحيح. ولكن من الصحيح أيضًا أنّ ما شهدناه في نيويورك أعاد "القضية" إلى طاولة الديبلوماسية، وفي القاعة ذاتِها التي كان نتنياهو قد وقف فيها قبل عامَيْن، مُنتشيًا ومتبجّحًا ليعلن أنّها قد "انتهت".

كما أنّ من الصحيح، إذا تجرّدنا من انحيازاتنا المسبقة، وإذا أعدنا قراءة خطاب نتنياهو هذا، وأمعنّا النظر في خريطته، وفي الحال الذي كان قد وصل إليه عالمنا العربي وأجندة الاهتمامات الدولية (قبل الطوفان) أنّ الطريق إلى ما شهدناه في نيويورك قبل أيام بدأ، فعليًّا وواقعيًًا في غزّة قبل عامَيْن، وتحديدًا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

لو لم يكن السابع من أكتوبر لما كنّا رأينا الدول الغربية الخمسة عشر تَعِد بأنّها ستعترف بالدولة الفلسطينية

يبقى أن لا قلق مع ما جرى في نيويورك، إلّا أن يحاول البعض أن يبيعه لنا "كغطاء ديبلوماسي/أخلاقي" يسمح بأن تمضي مسيرة التطبيع "الإبراهيمية" قدمًا بزعم أنّ مسيرة "الدولة الفلسطينيّة" قد بدأت. حسنًا فَعَلَ وزير الخارجية السعودي الذي سمعناه يؤكّد في نيويورك، التي كانت المملكة، إلى جانب فرنسا إحدى الدول الداعية إليها: "أنّ مبادرة السلام العربية ـ بيروت 2002 ـ هي أساس أيّ حلٍ عادلٍ وشامل". ونحن ككلّ مَن استمعوا إليه نعلم أنّ جوهر هذه المبادرة يقوم على مبدأ "الأرض مقابل السلام". ممّا يعني أنّ السلام العادل شرطٌ للتطبيع لا نتيجة له، وأنّ الدولة (لا سراب الطريق إليها)، شرط لازم للسلام والاستقرار، وأنّ التطبيع، إذا سبق شروطه سيكون واقعيًّا كفيلًا بقطع الطريق إلى "الدولة" المفترضة، ومعها كلّ أمل في سلام أو استقرار.

وبعد،

فلاعتبارات "مواءمةٍ ديبلوماسيةٍ"، أو لقصر نظرٍ سياسيّ، أو لغرضٍ في نفس يعقوب، قد يلعن هذا أو ذاك ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من فعلٍ مقاوم. كما قد تُوصف حماس بالإرهابية، فهكذا وُصفت كلّ حركات التحرّر الوطني: الـ"فيت كونغ" الفيتنامية، والماو ماو الكينية، والجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وهكذا صُنِّفَ غربيًّا "المؤتمر الوطني الأفريقي" وظلّ اسم نيلسون مانديلا؛ الحاصل على جائزة نوبل (للسلام)، على قائمة الإرهاب الأميركية حتى عام 2008، ولكنّ الوصم بالتهمة السياسيّة (التاريخيّة)، كما النظرة المُتباينة إلى ما فعله مقاومو حماس، لن يحولا دون الإقرار بحقيقة أنّه لو لم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولا ما دفع الفلسطينيون في غزّة (وما زالوا يدفعون من ثمن)، لَما كنّا رأينا الدول الغربية الخمسة عشر تَعِدُ بأنّها ستعترف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر/أيلول. هي لم تعترف بها طوال 30 عامًا من مسيرة أوسلو التي بدأت باعتراف منظمة التحرير بالدولة الإسرائيلية. المقاومة وحدها هي التي جاءت بهذا الاعتراف. أو بالأحرى بالوعد بالاعتراف، حتّى لو تراجع عنه بعض من وعد، مُتحجّجًا بهذا الأمر أو ذاك.

القضية الفلسطينية عادت إلى الواجهة وهذا لم يكن ليحدث ما لم تكن المقاومة قد فعلت ما فعلته

صحيحٌ أنّني كغيري لا أعرف ما سيجري في "شهر الاعتراف" هذا الذي وُعدنا به، ولكنّنا جميعًا بتنا نعرف، ما علينا نحن أن "نعترف به" وهو أن القضية الفلسطينية التي كان بنيامين نتنياهو قد أعلن نهايتها في سبتمبر/أيلول 2023، قد عادت إلى الواجهة. وأنّ هذا لم يكن ليحدث، ما لم تكن المقاومة قد فعلت ما فعلته بعد أسبوعَيْن فقط من حديثه.

المجدُ يبقى دومًا للمقاومة... والجنّة للشهداء لا ريب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن