كلّما أهلّت ذكرى التأميم يذهلنا البعض من أتباع الغرب في بلادنا بالندب على تأميم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر للقناة باعتبار أنه لم تكن له ضرورة لأنها كانت ستعود سلميًا عام 1968 مع نهاية مدّة الامتياز، وأنّ عبد الناصر كبّد مصر معاناة التعرّض للعدوان الثلاثي بلا داعٍ. وذلك الندب هو تجسيد لجهل ودناءة التبعية ومخاصمتها للعلم وللحقائق، وانحدارها المخزي لإدانة واحد من أعظم الأعمال الوطنية في تاريخ مصر وهو تأميم قناة السويس من أجل تمويل بناء سد مصر العالي، وهو التأميم الذي فتح لكل البلدان الخارجة من نفق الاستدمار الغربي دربًا للاستقلال والنهوض الاقتصادي والسياسي.
فما هي حكاية تأميم القناة ولماذا كان تأميمها لتمويل بناء سد مصر العالي أحد أعظم مآثر العهد الناصري؟
"القراد" ديليسبس واقتناص الامتياز الفاسد لحفر القناة
بعد اغتيال عباس حلمي الأول تولّى حكم مصر عمّه محمد سعيد ابن محمد علي. وبتوليه الحكم تبدأ القصّة العملية لحفر قناة السويس، حيث انتهز مدرّبه على الفروسية في طفولته فرديناند ديليسبس الفرصة وحضر إلى القاهرة والتصق به كـ"القراد" متحيّنًا الفرصة لاقتناص مشروع حفر قناة السويس اختطافًا من مجموعة السان سيمونيين أصحاب السبق والدراسات الجدية للمشروع. وبالفعل منحه سعيد امتياز تأسيس شركة حفر قناة السويس واستثمارها لمدة 99 سنة من تاريخ افتتاحها للملاحة، وبعدها تؤول لملكية الدولة المصرية. وتحمّلت الدولة المصرية كل النفقات الخاصة بالدراسات والبعثات وعمليات الإعداد لحفر القناة!!
محمد سعيد أهدر المال العام وقصم ظهر مصر بتوريد عشرات الآلاف من أبنائها ليعملوا بالسخرة في حفر القناة
وأصدر محمد سعيد الامتياز الثاني لديليسبس في 5 يناير عام 1856 وهو في مجمله عار على عهده ولا ينتمي لبأس وحصافة وحرص أبيه محمد علي باشا الكبير. وبموجب ذلك الامتياز تنازلت الحكومة المصرية للشركة مجانًا عن جميع الأراضي المطلوبة لإنشاء قناة السويس وترعة المياه العذبة التي تأخذ مياهها من النيل وتصل حتى قرية التمساح (صارت مدينة الإسماعيلية بعد ذلك) ومنها تنحدر جنوبًا حتى السويس وشمالًا حتى الفرما. وتمنح الحكومة المصرية للشركة الحق في إنشاء القناة وتشترك مع الحكومة المصرية في تقدير الرسوم التي تفرض على السفن التي تمر فيها، والحق في إنشاء ترعة للمياه العذبة تأخذ مياهها من النيل لإمداد المشروع بها وتكون صالحة للملاحة لنقل العمّال والمعدات، ويكون للشركة الحق في فرض الرسوم التي تراها على السفن التي تمر في الترعة وعلى أي استخدام لمياهها من قبل الفلاحين المصريين!! كما منحت الحكومة المصرية للشركة الحق في الانتفاع المجاني بكل الأراضي العامة المحيطة بالترعة والتي يمكن ريّها وزراعتها. وتلتزم الحكومة المصرية بتوريد أربعة أخماس العمّال اللازمين للحفر.
لقد أهدر محمد سعيد المال العام ممثلًا في الأراضي والامتيازات المجانية. كما قصم ظهر مصر بتوريد عشرات الآلاف من أبنائها ليعملوا بالتتابع بالسخرة في حفر القناة وترعة المياه العذبة لصالح الأفاق ديليسبس والمساهمين الأجانب.
وتحصل مصر على 15% من صافي أرباح الشركة مقابل كل الأراضي والامتيازات الممنوحة لها، بينما يحصل المؤسّسون على نسبة 10%، والنسبة الباقية للمساهمين. ولم يكن هؤلاء المؤسّسون سوى اللص ديليسبس نفسه وعائلته من بعده، حيث لم يعلن أبدًا عن قائمة المؤسّسين الذين يحق لهم الحصول على تلك النسبة، ولم يحصل أي من المؤسسين الذين ساهموا في تأسيس الشركة على أي حصة في تلك النسبة!
وإمعانًا في انتهاك حقوق مصر في فرمان عام 1856 تم تحديد باريس كمحل التقاضي بشأن أي خلاف. كما أعطى فرمان 1856 للشركة صاحبة الامتياز الحق في استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال البناء والمحافظة على المباني والمنشآت التابعة للمشروع من المناجم والمحاجر المملوكة للدولة بدون أن تدفع أي ضريبة أو رسم أو تعويض (مجانًا). كما تتمتع الشركة بالإعفاء الجمركي الكامل على كل وارداتها من الآلات والمواد اللازمة للمشروع أثناء إقامة المباني أو الاستغلال. وبدلًا من خضوع الشركة بشكل كامل للسيادة المصرية باعتبار أنها ستحفر في أرض مصرية كليًا، فإنّ فرمان عام 1856 أقرّ مبدأ حياد القناة وحرية الملاحة فيها لكل الدول على قدم المساواة وبدون أي تفضيل في حق المرور أو الرسوم المقررة عليه.
النية المبيّتة للسيطرة على القناة للأبد وتهافت مبرّرات الرافضين للتأميم
في البند السادس عشر من فرمان الامتياز الثاني تشير الفقرة الثالثة إلى "أنه إذا احتفظت الشركة بالامتياز لمدد متتالية كل منها 99 عامًا ارتفعت حصة الحكومة المصرية من 15% في المدة الأولى إلى 20% في المدة الثانية، إلى 25% في المدة الثالثة، وهكذا ترتفع هذه الحصة بمقدار 5% عن كل مدة على ألا تتعدى هذه الحصة أبدا 35% من صافي أرباح المشروع.
أي أنّ النية كانت مبيّتة لدى ديليسبس والشركاء الأجانب للسيطرة على الشركة للأبد وليس لمدة الامتياز المحددة بـ99 سنة. وفي بدايات القرن العشرين حاولت بريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك والتي سيطرت على غالبية أسهم القناة حينها، مد فترة امتياز تشغيل قناة السويس 40 سنة أخرى، لكن الحركة الوطنية المصرية بزعامة الرمز الوطني الكبير محمد فريد تصدّت لها وأجهضت تلك المحاولة. وإزاء تصاعد أهمية قناة السويس للتجارة الدولية، تم التوصل عام 1888 لاتفاقية القسطنطينية لضمان حياد القناة وحرية المرور البريء فيها لكل الدول. لكن بريطانيا لم تسمح لسفن الدول المعادية لها بالمرور في قناة السويس خلال الحرب العالمية الأولى، مما يعني أنّ القوة الموجودة على الأرض في منطقة القناة يمكنها تعطيل الاتفاقية بلا أي رادع، وهي سابقة تعطي مصر الحق نفسه إذا اقتضت المصالح الوطنية المصرية القيام بمثل هذا المنع.
سنوات الجفاف مرّت سقيًا وريًا وسلامًا على مصر وشعبها بفضل السد ومن ورائه القناة التي أمّمها ناصر لتمويل بنائه
وتلك الحقائق تؤكد تهافت وجهات النظر التي كانت تقول بأنّ مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خاضت معركة لا مبرّر لها عام 1956 من أجل تأميم القناة التي كانت ستعود إليها في عام 1968 وفقًا لعقد الامتياز، لأنّ الحديث عن المدد التالية في عقد الامتياز لم يكن عبثًا، بل كان تعبيرًا عن النوايا الحقيقية لديليسبس نفسه وللمساهمين الأجانب في الشركة. كما أنه لا يوجد مبرّر للصبر على سرقة فجّة وعلنية حيث كانت مصر تحصل على 3% فقط من إيرادات القناة قبل تأميمها. هذا بغض النظر عن أنّ تاريخ تأميم قناة السويس واستخدام إيراداتها في تمويل بناء سد مصر العالي وملء بحيرة ناصر يكاد يكون قدرًا تاريخيًا لإنقاذ مصر من الجفاف السباعي الرهيب الذي ضرب منابع النيل لسبع سنوات من 1980 إلى 1987 والذي لم يكن ليبقي أو يذر في مصر لو لم يكن السد العالي قد بُني وانتصب عملاقًا يتحكّم في نهر النيل ويمنع إهدار مياه الفيضان في البحر ويخزّنها لتملأ بحيرة ناصر التي شكّلت بنكًا مركزيًا للمياه سحبت منه مصر احتياجاتها خلال سنوات الجفاف أو الجمر فمرّت سقيًا وريًا وسلامًا على مصر وشعبها بفضل السد ومن ورائه القناة التي أمّمها ناصر لتمويل بنائه.
محمد سعيد يدخل مصر دوامة الاستدانة.. والسمسرة ربع القرض!
اقترض سعيد والي مصر لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وكانت الفائدة على أذون الخزانة التي أصدرها عام 1858 تتراوح بين 12% و 18%. وعندما مات محمد سعيد كانت ديون مصر قد بلغت نحو 367 مليون فرنك فرنسي وفقًا لتقديرات محمد صبري. أما تقديرات عبد الرحمن الرافعي فكانت نحو 11,16 مليون جنيه مصري. ولإدراك حجم الاحتيال الذي كان الحاكم الساذج محمد سعيد يتعرّض له يكفي أن نعلم أنه عقد أول قرض مثبت رسميًا في تاريخ مصر الحديثة بقيمة 3,244 مليون جنيه عام 1862، بينما بلغت القيمة الفعلية التي حصلت عليها مصر نحو 2,4 مليون جنيه فقط. أما المبلغ الباقي والبالغ 844 ألف جنيه فكان عبارة عن مصاريف السمسرة.
أي أن مصاريف السمسرة بلغت أكثر من 26% من القيمة الإجمالية للقرض. وبلغت نحو 35% مما حصلت عليه مصر فعليًا، فهل هناك نصب واحتيال أكثر من ذلك؟! وبتلك الديون التي خلّفها محمد سعيد باشا بدأت مسيرة شديدة الخطورة لتفاقم الدين الخارجي وانتهت بإخضاع مالية مصر للأجانب وسرقة قناة السويس ثم الاحتلال البريطاني الإجرامي لمصر. وتلك السرقة وتفاصيلها تبرّر وحدها تأميم القناة وهو موضوع المقال القادم.
(خاص "عروبة 22")