لا يمكن اجتثاث فكرة أو عقيدة من أي مجتمع، قد يمكن تهميشها أو تجاوزها بفعل تطوّر المجتمعات وتغيّر السياق السياسي والاجتماعي المحيط بها، إلا أنّ التعامل مع الأفكار كأنها إنسان يمكن قتله وينتهي الأمر مسألة غير علمية وخارج سياق التجارب الإنسانية.
صحيح أنّه بالقمع تحاصر النظم الاستبدادية الأفكار وتقمعها وتتصوّر أنها اجتثّتها، والحقيقة أنها قد تضعفها ولكنها لا تقضي عليها، وأنّ تاريخ الإنسانية مليء بالحكم والعبر في التعامل مع الأفكار التي تعلّمت منها كثير من الدول والشعوب، ما عدا إسرائيل التي لا زالت تستخدم مفردات القضاء الكامل والاجتثاث حتى الآن.
تجربة إسرائيل في التعامل مع حركات المقاومة بمختلف توجّهاتها مثّلت أسوأ صور تجارب الاجتثاث في العالم
وقد شهدت منطقتنا العربية كثيرًا من الممارسات الاستئصالية، سواء تلك التي قامت بها نظم محلية أو سلطة احتلال وانتهت جميعها بالفشل، فتاريخ الاستعمار في عالمنا العربي انطلق من تصوّر استئصالي يقوم على اجتثاث المقاومة سواء كانت شعبية مدنية أو مسلحة، واجتثاث كل أفكار التحرّر الوطني بالقمع والمحاصرة وانتهى الأمر بأن انتصرت قوى المقاومة والاستقلال وتحرّرت البلاد العربية ومعها دول العالم الثالث.
عادت النظم العربية ولعب كثير منها "لعبة الاجتثاث" فرفع البعض شعار اجتثاث الشيوعية وجماعات الإسلام السياسي وحتى الأفكار الليبرالية تكلّم البعض عن اجتثاثها باعتبارها أفكار غربية بنت الاستعمار، وانتهى الأمر أن حوصرت كثير من هذه الأفكار لكنها ظلّت باقية لأنها ليست "شلّة أصدقاء" يمكن التخلّص منهم بالسطو والتنكيل وحتى القتل، إنما هي بالأساس أفكار عقائدية تحملها تنظيمات أو أحزاب يمكن إضعافها أو حصارها ولكن الفكرة ستظل محلّقة في الفضاء وسيُعاد إنتاجها وتأطيرها مرة أخرى في قالب جديد وأحيانا في القالب القديم نفسه.
والحقيقة أنّ نظمنا العربية قدّمت "أسوة غير حسنة" في التعامل القمعي مع كثير من الأفكار في حين أنّ المطلوب هو مواجهة الفكرة المتطرّفة بفكرة معتدلة وبنظام كفء ودولة قانون قادر على تحويل شطط أي فكرة إلى مشروع سياسي معتدل يختلف مع النظم القائمة في الرؤى والبرامج وليس على جوهر النظام الدستوري القائم.
إنّ محاربة الأفكار المتطرّفة لا تكون أساسًا بقمع من يحملونها إنما تغيير الظروف التي أدّت إلى انتشار "التطرّف" لأنّ قوّتها أساسًا في الفكرة وليس في الأعداد الكبيرة أو الصغيرة لمن يحملونها.
اضطرّت أميركا عقب احتلال دام 20 عامًا أن تسلّم السلطة لحركة "طالبان" التي سعت لاجتثاثها
والحقيقة أنّ تجربة إسرائيل في التعامل مع حركات المقاومة بمختلف توجّهاتها مثّلت أسوأ صور تجارب الاجتثاث في العالم وأكثرها قسوةً وتشدّدًا، فخطاب إسرائيل المعلن لتبرير عدوانها على غزّة هو أنها ترغب في اجتثاث "حماس" مثلما فعلت أمريكا وحلفائها في العراق حين رفعت شعار اجتثاث "البعث" والنتيجة أنها فعلًا اجتثّت التنظيم لكنها حوّلت جانبًا كبيرًا من أعضائه نحو تنظيمَيّ "القاعدة" و"داعش" أي نحو خيار إرهابي شديد التطرّف، وفي الوقت نفسه لا يمكن القول إنها قضت على الفكرة البعثية أو القومية داخل العراق أو خارجها.
أما قضية "حماس" فهي نموذج فج لتهافت مشروع الاجتثاث الذي طُرح في العراق بطريقة شديدة العنف والدموية، وطُرح أيضًا في أفغانستان مع حركة "طالبان" بطريقة فيها مزج بين العنف والدموية وبين النعومة، ومحاولة تأسيس نموذج سياسي واقتصادي وثقافي يساعد أمريكا في "اجتثاث طالبان"، وأنفقت في ذلك حوالى تريليون دولار كما قال الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من أجل إعادة تأسيس جيش أفغانى جديد وأجهزة أمنية ومؤسسات إدارية "شكلها حداثي"، حاولت زرعها فى البيئة الأفغانية وفرضها على البلاد وفشلت، واضطرّت عقب احتلال دام 20 عامًا أن تسلّم السلطة لحركة "طالبان" التي سعت لاجتثاثها.
لقد فشلت الولايات المتحدة في اجتثاث "البعث" من العراق وحوّلت جانب من عناصره إلى تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وفشلت أيضًا في اجتثاث "طالبان" التي عادت لحكم أفغانستان، ومع ذلك فهي تدعم إسرائيل فيما تسميه مشروع اجتثاث حركة "حماس".
يقينًا يمكن للدولة العبرية أن تضعف قوة "حماس"، بل يمكن أيضًا أن تفكّك قدراتها العسكرية وتقتل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، ولكنها لن تستطيع أن تقضي على فكرة أو ايديولوجية مقاومة المحتل، لأنها ستعود مرّة أخرى في ثوب جديد قد يكون أكثر تطرّفًا أو اعتدالًا لكنه سيعود طالما بقي هناك احتلال فستصبح هناك مقاومة أيًا كان اسمها وتوجّهها.
إنّ كثيرًا من العرب والفلسطينيين، وليس فقط الأوروبيين والأمريكيين، يختلف جذريًا مع حركة "حماس"، ولكن هذا لا يعني قبول وهم اختفاء الحاضنة الشعبية أو الفكرة التي قامت عليها حركة مقاومة، وإذا كان هناك من يعتبر أنّ "حماس" حركة متطرّفة فإنّ المطلوب هو تغيير الظروف التي جعلت هناك أسباب لنمو وتصاعد هذا "التطرّف" بخلق بيئة تشجّع على الاعتدال والحلول السلمية العادلة وترفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني حتى ينال حقّه في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
حركات التحرّر الوطني لا يمكن اجتثاثها لأنها جميعًا مرتبطة بقضية مجتمعية توافقت على مواجهه سلطة احتلال
لا يمكن القضاء على حركة تحرّر حتى لو صنّفها البعض جماعة إرهابية، ولا يمكن اجتثاث فكرة حتى لو قضيت على التنظيم الذي يتبنّاها، صحيح أنّ تنظيمات التطرّف والإرهاب يمكن القضاء عليها أو تهميشها مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرهما لأنّ قاعدتها الشعبية مؤقتة ويمكن حصارها بفعل مشروع سياسي واجتماعي بديل أو نتيجة حتى المواجهات الأمنية، ولكن ستظل أفكارها محلّقة في الفضاء العام منتظرةً ظرفًا سياسيًا مأزومًا لتعود مرّة أخرى، أما حركات التحرّر الوطني من جبهة التحرير الوطني الجزائرية - صنّفتها فرنسا أيضًا كجماعة إرهابية - إلى تجارب فيتنام وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وانتهاءً بتجربتَيّ "طالبان" و"حماس" وغيرهما، فلا يمكن من الأصل اجتثاثها أو القضاء عليها حتى لو تم إضعافها لأنها جميعًا مرتبطة بقضية مجتمعية توافقت على مواجهه سلطة احتلال، وليس فقط مجرّد خيار عقائدي أو ايديولوجي يمكن تجاوزه.
(خاص "عروبة 22")