تفاقمت الخلافات خلال الأيام الماضية داخل البرلمان التونسي بشأن قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. ففيما يتمسّك نواب بعض الأحزاب، وخاصة القوميون، بالدفع نحو تمرير القانون، يسعى رئيس البرلمان لمنع مروره وحذّر من نتائجه على مصالح البلاد. وقام بودربالة الجمعة الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني بتعليق جلسة المصادقة على قانون تجريم التطبيع وإرجاءها إلى أجل غير مسمى.
وأثار رفض بودربالة للقانون حفيظة النواب المتمسكين بتمرير القانون الذين هدّد بعضهم بالاعتصام وبسحب الثقة من رئيس البرلمان، معربين عن إصرارهم على إتمام المصادقة على القانون قبل المرور إلى أي نشاط برلماني آخر.
ودخل الرئيس قيس سعيد بدوره على الخط في خطاب ألقاه مساء الجمعة الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، قائلًا في معرض تعليقه على الجدل القائم داخل البرلمان بشأن مشروع القانون: "نحن في حرب تحرير لا حرب تجريم، ولست بحاجة لشهادة أحد... وأؤكد مجددًا أنّ الأمر يجب أن يتعلّق بالخيانة العظمى للشعب الفلسطيني".
ويتضمن مشروع قانون تجريم التطبيع المطروح على البرلمان ستة فصول، يعرّف الفصل الثاني منه "التطبيع، اعترافًا وتعاملًا، جريمة يُعد مرتكبًا لها كل شخص تعمّد القيام أو المشاركة أو محاولة القيام بالتواصل أو الاتصال أو الدعاية أو التعاقد أو التعاون بكل أشكاله بمقابل أو بدونه بصفة عرضية أو متواترة بشكل مباشر أو بواسطة من قبل الاشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين ينتمون للكيان الصهيوني أفرادًا ومؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات حكومية أو غير حكومية، عمومية أو خاصة، باستثناء فلسطينيي الداخل".
كما يجرّم المشاركة بأي شكل من الأشكال في الأنشطة والفعاليات والتظاهرات والملتقيات والمعارض والمسابقات بأنواعها "التي تقام على الإقليم الذي تحتلّه أو تتحكّم فيه سلطات الكيان الصهيوني".
وتوجّه تهمة "الخيانة العظمى" إلى كل من "تخابر مع الكيان الصهيوني" ويعاقب مرتكب "جريمة التطبيع" بالسجن مدى الحياة أو لمدة تتراوح بين ست سنوات و12 سنة وبغرامة مالية تصل إلى مئة ألف دينار (حوالى 33 ألف دولار).
ويعكس عدم تأييد قيس سعيد صراحةً لسن قانون يجرّم التطبيع مع إسرائيل مخاوفه من الصدام مع القوى الغربية الداعمة بقوة لإسرائيل، إذ يتفق المراقبون في تونس على أنّ تمرير القانون سيكون على المستوى الداخلي منسجمًا تمامًا مع المزاج الشعبي التونسي الداعم للقضية الفلسطينية لا سيما في ظل الجرائم والمجازر التي تقترفها القوات الإسرائيلية في قطاع غزّة، لكن الأمر يختلف على المستوى الخارجي، بحيث تخشى تونس أن يمس القرار مصالحها مع الدول الغربية التي اصطفت جميعها وراء إسرائيل، بل وذهبت لاعتبار المواقف المناهضة للكيان الصهيوني "معاداة للسامية"، زد على ذلك أنّ تونس تعيش على وقع أزمة اقتصادية ومالية كبيرة وهي بصدد البحث عن تمويلات للحيولة دون تفاقم الوضع أكثر وتحريك عجلة الاقتصاد مجددًا، وهو ما يجعل فرص المناورة لديها محدودة.
من جهة أخرى يرجّح كثيرون، بينهم بعض النواب، أن يكون الرئيس التونسي قد "تعرّض لضغوطات أجنبية من أجل عدم تمرير القانون أو على الأقل تأجيله، لا سيّما وأنّه بالنظر إلى الاصطفاف الغربي الكبير حاليًا مع إسرائيل فإنه من المرجح أن تكون تونس قد واجهت بعض التهديدات، خاصة تلك التي من شأنها التأثير على الوضع الاقتصادي المنهار في البلاد".
تجدر الإشارة إلى أنه في السادس من آب/أغسطس 2020 عرض كل من السيناتور الديمقراطي كوري بوكر والسيناتور الجمهوري روب بورتمان على الكونغرس الأمريكي مشروع قانون أطلِق عليه "قانون تعزيز الإبلاغ عن الإجراءات المتخذة ضد تطبيع العلاقات مع إسرائيل لعام 2020"، يطالب وزارة الخارجية الأمريكية بتقديم تقارير سنوية حول انخراط الحكومات العربية في القيام بإجراءات سياسية وقانونية مناهضة للتطبيع مع إسرائيل. وقبل ذلك، في فبراير/شباط 2019، تبنّت الجمعية العامة بالبرلمان الفرنسي لائحة تؤيّد توسيع مفهوم "معاداة السامية" ليشمل أيضًا معاداة الصهيونية، رغم رفضه من عدد كبير من المثقفين الفرنسيين. وهي مواقف من شأنها أن تدفع تونس لدراسة كل قراراتها في هذا الاتجاه أو ذاك قبل تنفيذها.
أما النائبة المستقلّة فاطمة المسدي، فأكدت أنّ التضامن مع الفلسطينيين ودعمهم هو "مسألة مبدئية لكل التونسيين ولا علاقة للأمر بمشروع القانون المعروض في البرلمان" معتبرة أنه يتضمّن "العديد من الأخطاء الشكلية والضمنية".
وقالت المسدي لـ"عروبة 22": "قمنا بصياغة قانون بمفردنا ولا نعلم مثلًا إذا كان الرياضيون التونسيون أو غيرهم من التونسيين سيتعرضون لعقوبات على خلفية هذا القانون. إنها مسؤولية تاريخ كامل في تونس سنتحمّلها إذا ما أخطأنا في هذا القانون. نحن نطالب بتجريم التطبيع وهو مطلب لكل التونسيين لكن يجب أن يتم ذلك على قاعدة قانونية دقيقة".
وأضافت: "كان من المفروض ان توحّدنا القضية الفلسطينية ولكن أصبحت معركة كبيرة. أعتقد أنّ ملف القضية الفلسطينية في البرلمان أصبح يُستغل لخدمة أجندات انتخابية، فكتلة حركة الشعب المصرّة على تمرير القانون تعمل على إحراج رئيس الجمهورية لأنّ لديها مرشحًا للرئاسة".
ومطلب "تجريم التطبيع" ليس وليد الحرب الراهنة في غزة، بل كان مطلبًا مطروحًا منذ فترة عمل المجلس الوطني التأسيسي 2011 ـ 2014. وكان الهدف حينها أن ينص الدستور التونسي على تجريم التطبيع صراحة لكن المقترح لم يحظَ بموافقة الأغلبية البرلمانية ورفضته "حركة النهضة"، الكتلة الأكبر حينها بالمجلس الوطني التأسيسي. ولهذا اقتصر دستور 2014 على ما جاء في نهاية توطئته "وانتصارًا للمظلومين في كل مكان، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولحركات التحرّر العادلة وفي مقدّمتها حركة التحرّر الفلسطيني، ومناهضة لكل أشكال الاحتلال والعنصرية".
لم تتوقّف المطالبة بهذا القانون وعادت مجددا في أواخر سنة 2015، عندما قدّمت كتلة الجبهة الشعبية بالبرلمان التونسي حينها (تكتل يساري) مشروع قانون يتعلق بتجريم التطبيع مع إسرائيل، لكنه لم يمر للمصادقة عليه في جلسة عامة.
وفي مايو/ أيار 2018، أعلن البرلمان التونسي عن إحداث "لجنة القدس وفلسطين"، لكن لم تصدر أي معلومات أكيدة عن أنشطة هذه اللجنة خلال فترة عملها. وفي 15 ديسمبر/كانون الأول 2020، قدّمت الكتلة الديمقراطية في البرلمان حينها (تضم أساسًا حركة الشعب والتيار الديمقراطي) بالشراكة مع عدد من النواب المستقلين، مشروع قانون لتجريم التطبيع، لكنه أيضا لم يمر، علمًا أنّ هذه المبادرة التي طرحت في أواخر سنة 2020 تزامنت مع موجة التطبيع العربية التي انساقت إليها أربع دول تباعًا، الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
(خاص "عروبة 22")