عرف القرن التاسع عشر والقرن العشرين صحافيين كبارًا، تحوّلوا أشخاصًا أسطوريين في تقاريرهم عن الحرب العالمية الثانية، وحققوا نجاحات مهمّة في مناطق النزاعات الكبرى، لا سيما في القارة الأفريقية والعراق وأفغانستان.
المعلومت تحرّرت، ومعها تحرّرت الحقيقة من كل أطر مرجعية
العلاقة بين وسائل الإعلام والقوى الأخرى، لا تختلف في العمق عن أُسُس العلاقة العامة التي تجمع بينها وبين المجتمع والدولة، أخذًا بعين الاعتبار الفعل الموجّه وشرح الاتجاه ومحتوى الفعل السياسي. لكن شكّلت الحرب في غزّة قطعًا رئيسيًا، لأنّ معرفة ما يجري على الأرض ما عاد يمرّ فقط بالاحتكار الثنائي الكلاسيكي، ما بين مرجعية الدولة، وبين المعلومات والرسائل التي ينقلها الصحافيون. برز هذا الصوت الجديد للفرد/الصحافي المواطن، الذي أخذ فعالية حيوية وقوية في المجتمع، وأعطى قيمة للمرجعيات اللامركزية. وهو شاهد بدوره، وبخلاف السابق برز الفرد بتأثيره وفعاليته في الإطار الشمولي العام. هذا يعود إلى الاهتمام الحديث المؤسّس على الحاجة الى البُعد الشامل وتقاسم الخبر.
النقاش المعارض للدولة الإسرائيلية وعدوانيتها خرج عن مبدأ الرقابة في الصحافة الإسرائيلية التي قدّمت نظرات متعارضة ومتعاكسة مع دولة الاحتلال، وكادت الأخيرة تفقد أهميّتها المفهومية. وجاءت وسائل التواصل الإجتماعي قوة تطوير هائلة في انتشار المعلومة، مما أدى إلى إعادة تعريف استراتيجيات الحرب وأخذ استنتاجات سريعة عامة والناس في قلب الحدث والنزاع من أنّ اسرائيل لن تربح الحرب مطلقًا، وحول طبيعة الأزمة التصعيدية، وحول التناسب الحديث من أنّ الصراع الكلاسيكي صار في واجهة الأخطار، وحلّت محلّه مواقع غير متوازية وأكثر تعقيدًا. فالعصر هو العصر الفردي، عصر المعلومات، ولأول مرّة يخرج الإعلام من الدول الكبرى ومن الغرب، ومن هياكل الإعلام الرسمية. المعلومت تحرّرت، ومعها تحرّرت الحقيقة من كل أطر مرجعية. يعلن التصريح قبل أن يُعلن، والأسرار في المراكز الأمنية صارت بمتناول الصحف الكبيرة ومواقعها الإلكترونية الجديدة.
الشعبوية تنبثق من العدم في التغاضي عن قضية فلسطينية خانها الجميع، والجميع أعلنوا موتها!
ثمّ ما عادت وسائل الإعلام الغربية هي التي تنظّم الإعلام العالمي وسط ادعاءات الديمقراطية. ليست كلها ديمقراطية ولا تستخدم وسائل قانونية، قابلتها تظاهرات معارضة للحرب في عواصم العالم، في واشنطن وباريس ولندن ومونتريال وكوبنهاغن واسطنبول وغيرها. هذا جديد إلى حد كبير، أي ضرب المرجعيات السياسية والتاريخية والجغرافية والدولية بالمعنى الرسمي. الحقائق صارت قابلة للتحوّل ضد الكيان الصهيوني في ما يعانيه الشعب الفلسطينيي من قبل نظام ابارتيد عنصري. أبرز الإعلام الأمل الفلسطيني إلى العالم، ينتصر على منتهكي الديمقراطية، ويؤسّس لحق الفلسطينيين بحيواتهم الخاصة. خرج العالم كلّه من تحت المراقبة، وكان كل شيء مشتبهًا به، وكشف اتساع استخدام هذه الممارسة وخطرها على حقوق الإنسان والعدالة الحق، وأعاد نشر كل الحقائق المؤلمة وفضيحة الإحتلال الاسرائيلي المخالف للقوانين الدولية.
يعيد الشباب في العالم اكتشاف قيمه، يتعانق والعقل وملامح سياسية تدير الظهر لردود فعل محددة بتراجيديا خاصة. يتغيّر العالم لتظهر الوقائع أكثر اقناعًا من الخوف. يعيد الشباب الإكتشاف أنّ العالم واحد، سلام أم نزاع، والشعبوية تنبثق من العدم في التغاضي عن قضية فلسطينية خانها الجميع، والجميع أعلنوا موتها! فإذا الشخصية الفلسطينية الجديدة الهجومية: ما دمتم تحترمون القانون، لن نترككم وحالكم مطمئنين. فتعود كبرى الجرائد العالمية "لوموند" الفرنسية، "نيويورك تايمز" الأميركية، "دير شبيغل" الألمانية، و"ديلا سيرا" الإيطالية عن دعمها اللوبي اليهودي الذي يحتل فلسطين، ويمعن قتلًا وتشريدًا وتنكيلًا وقمعًا بالشعب الفلسطيني، وعن نشر كتابات عنصرية قابلة لأن تكون "إشكالية" وسجالية، مرفوضة من القوى الشبابية الغربية السائدة، التي من حقها أن يكون لديها فكرة شاملة تناقشها، أو تحلّلها، أو تنتقدها، في ممارسة إسرائيل، وهي تحاول محو شعب بكامله: فلسطين بلا شعب / شعب بلا أرض.
(خاص "عروبة 22")