بصمات

"التحمّل" الجيو-ثقافي.. ومستقبل الشعوب

تؤكد مجموعة من الدراسات المهتمّة بتاريخ الإنسان على انقراض حوالى ثمانية أنواع من البشر المنتصب القامة، وذلك لأسباب متعدّدة ومنها ما هو طبيعي. كما انقرضت شعوب كثيرة، مثل قوم عاد وثمود والأحقاف ولوط، وشعوب أبادها الأباطرة مثل جنكيزخان ومن قبله جبابرة كثر.

يشير "دومينيك لامي" في كتابه "أطلس الشعوب المنقرضة"، إلى السومريين وشعب سبارطة وشعوب رومانية قديمة، "Etrusque"، وشعب "Mochicas" الذي عمر أراضي سواحل جنوب البيرو (حوالى 700 قبل الميلاد)، وكذلك شعب مملكة "Aksoum"، "أكسوم"، في قلب إثيوبيا القديمة، وشعوب في أفريقيا وفي عدة مناطق من العالم.

وتعجّب المؤرّخون والعلماء من اختفاء حضارات معينة بشكل غامض، ذكرها موقع "Listverse"، مثل حضارة الأنباط، وشعب كلوفيس "Clovis"، وحضارة كاتالهويوك "Catalhoyuke" وشعب رابا نوي "Rapa Nui"، والحضارة المينوسية "Minoans"، وحضارة كيوكوتيني-تريبليان" "Cucuteni-Trypllian"، وشعوب أناسازي "Anasazi"، وحضارة نبتة بلايا، "Nabta Playa"، وامبراطورية الخمير "Khmer Empire"، وحضارة الأولمك "Olmecs" التي تُعتبر أول وأكبر حضارة في أمريكا الوسطى، والتي اختفت حوالى 400 قبل الميلاد، وتركوا آثارًا ضخمة، لكن وبشكل غريب، لا وجود لأثر عظامهم!

وتطرّق الباحث "جارد دياموند"، في كتابه" الانهيار: كيف تحقّق المجتمعات الإخفاق أو النجاح؟"، إلى تفسير العلماء لأسباب انهيار الحضارات القديمة والمجتمعات المعاصرة، موضحًا: "عندما أقول: انهيار، أعني انخفاضًا كبيرًا في عدد السكان أو تعقيدات سياسية/ اقتصادية/ اجتماعية تصيب منطقة معينة في زمن معين. تعدُّ ظاهرة الانهيارات، لهذا السبب، شكلًا قاسيًا من عدة أنواع أخف وطأة من الانحطاط، ويصبح اعتباطيًا تحديد مدى شدة انحطاط مجتمع قبل أن يصبح مؤهلًا للوصول إلى مرحلة الانهيار تتضمّن بعض أنواع الانحدار تلك الأخف وطأة الحركة المهمّشة العادية صعودًا وهبوطًا للثروة. وإعادة الهيكلة الثانوية السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية لأي مجتمع بعينه، وهزيمة المجتمع من قبل جار قريب، أو انحداره بسبب ارتقاء مجتمع مجاور، دون تغيير في عدد السكان الكلّي أو تركيبة المنطقة أو استبدال نخبة حاكمة من قبل أخرى أو إسقاطها".

الحروب النفسية الجديدة تروم تقويض معنويات الشعوب الهشّة التي فقدت تقديرها لذاتها والإيمان بمستقبل لها

واستنادًا إلى مجمل المعايير التي ذكرها "جارد دياموند"، فإنّ الشعوب والحضارات التي اختفت لم تعانِ من انحدار ثانوي وإنما من انهيار شامل. ومن المداخل المهمّة لفهم قدرة وكفاءة مجتمع ما في تدبير المخاطر التي تهدّد راهنه ومستقبله، وتؤدي به إلى انحطاط أو انهيار شامل، هناك المقاربة الجيو-ثقافية التي تعتبر "التحمّل الجيو-ثقافي" "La résilience géoculturelle"، أمرًا هامًا لقياس قدرة شعب ما على مواجهة الانقراض. والمقاربة الجيو-ثقافية التي كتب عنها كل من "أوليفي هان" و"توماس فليشي" "Thomas Flichy"، في كتابهما "الجيو-ثقافية، الترافع من أجل حضارات الاستدامة"، هي تحليل للظواهر الجيوسياسية والتاريخية، من خلال دراسة علاقة الهويات بالذاكرة الجماعية والمرتبطة بالزمن والعرق والدين وتمثّل الذات الجماعية والوطن ضمن مجال جغرافي طبيعي معين. وهي مقاربة لا تُسقط أهمية العوامل الاقتصادية، لكن لا تعتبرها محددة لمصير مجتمع معيّن، إلا ضمن الإطار العام المشكّل للهوية الوجودية.

ويُعدّ التحمّل الجيو-ثقافي من مظاهر بلوغ مجتمع ما، مستوى الانصهار والاندماج بين مكوّناته، في وعي تام بضرورة الحفاظ على كينونته وخصوصيته. وبالتالي فإن التحمّل الجيو-ثقافي، هو قدرة مجموعة عرقية أو ثقافية على تدبير الأزمات الأكثر خطورة، مثل كساد اقتصادي كبير أو حروب أو اجتياح أو وباء أو كوارث طبيعية، بفضل مرتكزاته الثقافية والوطنية وهويته، أو بصفة إجمالية بفضل "روحه الثقافية"، والتي تتكوّن من مختلف المشاعر المشتركة والقيم التي توحّد الجماعة وتعطيها القوة لتشكيل لحمة ثقافية.

وهكذا فإنّ المجتمعات التي تملك "البصمة الجيوثقافية"، والتي يُراد بها استمرار امتلاك مقوّمات "العلامة الثقافية أو الحضارية" التي تكوّنت عبر التاريخ وانغرست في الوجدان الجماعي وشكّلته، فإنها تستثمر ذلك في تنمية "ثقافة الاندماج الوطني"، والمحافظة على الوحدة والتشبّث بالرغبة الجماعية في مقاومة اقتلاع هويتها.

ومن الملاحظ أنّ مجتمعات معاصرة، آخذة في فقدان هويتها، وذلك منذ موجات الاستعمار، حيث انقرضت لغات محلية وأعراف متجذّرة في التاريخ، مثل أسلوب إدارة الشؤون المحلية، في بعض المجتمعات الأفريقية التي كانت تعرف أساليب الحكم الرشيد المحلي، واعتماد "قوانين جيو-ثقافية" تحافظ على انصهار مجتمعاتها.

قدرة التحمّل الجيو-ثقافي الفلسطيني، نابعة من تراكم خبرة تاريخية في مواجهة أشكال الاجتياح

وبالرغم من إذلال المستعمر لمجموعة من الشعوب، فإنها استطاعت تحقيق استقلالها الأوّلي، وتشكيل دول، لكن الإذلال الراهن والذي تتسبب فيه موجات العولمة والغزو الثقافي الجديد، ونظام الهيمنة الجيواقتصادية أحدث شرخًا داخل "الروح الثقافية" لعدّة مجتمعات معاصرة وخصوصًا بعد توالي الحروب النفسية الجديدة التي تروم تقويض معنويات الشعوب الهشّة والتي فقدت تقديرها لذاتها وفقدت الإيمان بمستقبل لها.

ويُعتبر الشعب الفلسطيني من المجتمعات التي قاومت الاحتلال الصهيوني والتكالب الدولي، وخطط التشويه الثقافي وسرقة ليس فقط الأرض وإنما المجال الحضاري بكامله، لمجتمع يواجه البطش بكل أنواعه. وإنّ قدرة التحمّل الجيو-ثقافي الفلسطيني، نابعة من تراكم خبرة تاريخية في مواجهة أشكال الاجتياح، وامتلاك إرادة قوية في الاستمرار الحضاري. وتكمن "البصمة الجيو-ثقافية" للشعب الفلسطيني كذلك في جذوة الاحترام الجماعي للذات، وهو أمر هام في التحمّل الجيوثقافي، فهذا التقدير الجماعي للذات، هو نوع من الرضا الذي يحرص عليه شعب ما، وهو اقتناع وإيمان بهويته وذاكرته وقضيته ووجهته. لذلك فإنّ التحمّل الجيوثقافي، هو أكبر من امتلاك قدرات عسكرية أو اقتصادية، فهو "قوة أخلاقية"، تقهر العدو المغتصِب وتجعله ذليلًا مهما تكبّر وتجبّر.

ونعتقد بأنّ المجتمعات العربية معنية بالحفاظ على قدرة التحمّل الجيو-ثقافي، لأنّ التحوّلات العالمية الراهنة والقادمة ستقتلع المجتمعات التي فرطت في بصمتها الجيوثقافية وفقدت روحها الثقافية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن