وفق دوائر سياسية وعسكرية في تل أبيب، فإنّ عملية "طوفان الأقصى" مثّلت هزيمةً مذلةً لإسرائيل، وهو ما تم ترجمته في خطط جيش الاحتلال المدفوعة بالانتقام وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في القطاع، في محاولة لترميم صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وإعادة هيبته إلى ما كانت عليه قبل العملية.
من بين الخطط المختلفة اختار جيش الاحتلال استراتيجية "الأرض المحروقة"، خاصة في ظل غياب القدرة على تحديد أهداف واضحة يمكن أن يحققها نظرًا لصعوبة ميدان المعركة وصعوبة تحديد أماكن أسراه أو مقرات قيادات ومقاتلي حركة "حماس" المتخندقين في مدينة الأنفاق أسفل القطاع.
"الأرض المحروقة"، هي استراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها "إحراق" كل شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدّم أو التراجع في منطقة ما، وفي حالة غزّة قام جيش الاحتلال بتدمير مربعات سكنية كاملة دون النظر للكثافة السكانية الهائلة في القطاع الذي يتجاوز عدد ساكنيه 2.3 مليون نسمة.
في مقابل تلك الاستراتيجية اعتمدت المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها "كتائب القسام" الذراع العسكرية لـ"حماس"، استراتيجية "المسافة صفر"، وهو الأسلوب القتالي الذي يلتحم فيه المقاتلون مع جنود وآليات العدو، ويتراوح مجال المواجهة ما بين 50 إلى 100 متر، وتعتبر المستوى الثالث من الحروب أو الاشتباكات داخل المدن، ويتم اللجوء إليها عندما يحدث تداخل بين طرفي الحرب.
إنتقلت المقاومة الفلسطينية إلى استراتيجية "المسافة صفر" بعدما فرضت موعد المواجهة، في أعقاب مباغتة مواقع جيش الاحتلال خلف السياج الفاصل في مستوطنات غلاف غزّة، وما تبعها من الاعتماد على الصواريخ المنطلقة من القطاع بمدايات مختلفة.
في هذا الصدد يقول مصدر أمني مصري يتابع مجريات المعركة لـ"عروبة 22"، إنّ "إسرائيل في بادئ المعركة كانت تهدف إلى الاجتياح البرّي منذ اليوم الأول، لكنها تيقّنت أنّ القتال في المدن مع خصم مثل "حماس" لن يحقّق هدفها الأساسي وقد يكبّدها خسائر فادحة، وهو ما اضطرّها إلى اعتماد استراتيجية الأرض المحروقة".
ويعتقد المصدر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أنّ "إسرائيل اضطرّت إلى تقليص حجم أهدافها في ظلّ صعوبة ميدان المعركة، وعدم قدرتها على التوصل لمعلومات استخباراتية تمكّنها من قراءة أفضل للقطاع ونقاط تمركزات المقاومة، حيث اضطرّت إلى استباق بعض المراحل عندما أدخلت قوات خاصة وعناصر من سلاح المهندسين على أمل التوصل لفتحات الأنفاق".
ويرى المصدر الأمني أنّ "تل أبيب، وأمام هدفها إزاحة "حماس" وبنيتها العسكرية من شمال القطاع، عمدت إلى "مسح الأرض" تمامًا وهدم المنازل والقضاء على كافة مقومات الحياة لجعل منطقة شمال غزّة غير صالحة للحياة بعد توقف الحرب ولمدة سنوات عديدة".
ميزان الخسائر
منذ بداية العملية البرية، خسر جيش الاحتلال ما يقرب من 50 جنديًا وضابطًا، بحسب وسائل إعلام إسرائلية، بخلاف 348 جنديًا وضابطًا و59 من الشرطة و10 من جهاز الأمن العام (الشاباك) سقطوا في هجوم المقاومة يوم السابع من أكتوبر الماضي، ويأتي ذلك وسط حديث عن تكتّم الاحتلال عن خسائره الحقيقية في محاولة للحفاظ على الروح المعنوية لقواته.
وفي المقابل أعلن "أبو عبيدة" المتحدث باسم "كتائب القسّام" أن مقاتليهم وثّقوا تدمير 136 آلية عسكرية (دبابة وجرافة وناقلة جند)، بشكل كامل أو جزئي وإخراجها من المعركة.
تلك الأعداد المعلنة من جانب "أبو عبيدة" تشير إلى خسائر بشرية كبيرة في صفوف قوات الاحتلال - إن صحّت - تتراوح بين 600 و900 قتيل ومصاب عسكري إسرائيلي منذ بدء الهجوم البري.
وفيما لم تعلن "حماس" عن حجم الخسائر البشرية في صفوف مقاتليها، أكد المتحدث باسم جيش الاحتلال أنهم منذ الهجوم البرّي أسقطو نحو 10 قيادات ميدانية في "القسّام"، بخلاف، ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي للحركة في قطاع غزّة وهم زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة وأسامة المزين، إضافة إلى قائد القيادة الوسطى وعضو المجلس العسكري في "كتائب القسّام" أيمن نوفل، وجميعهم سقطوا في ضربات جوّية.
في هذا السياق، يرى المصدر الأمني المصري أنه في إطار قراءة الميدان يتبيّن أنّ "حجم الخسائر من الناحية العسكرية هو في صالح المقاومة، خاصة في ظل حجم القوة العسكرية الهائلة التي تستخدمها إسرائيل في هذه الحرب".
أدوات المعركة
تفرض الاستراتيجية التي لجأ إليها كلا الطرفين في المعركة نوعيات محدّدة من الأسلحة والذخائر لتحقيق وخدمة الأهداف المعلنة من المعركة.
فمن جهة، تعتمد استراتيجية "الأرض المحروقة" التي لجأت إليها إسرائيل أكبر قدر من التدمير غير مفرّقة بين الحجر والبشر، فأخرجت كل ما بجعبتها في هذه المواجهة، واستخدمت أحدث ما في ترسانتها من قنابل وصواريخ موجّهة وخارقة للتحصينات، والتي دمّرت أكثر من 270 ألف وحدة سكنية في غزة، بحسب إحصاءات رسمية فلسطينية.
واستعملت طائرات الاحتلال الإسرائيلي قنابل Bunker Busters، أو "خارقة الأقبية"، وهي قنابل غير موجّهة بوزن 900 كيلوجرام، وهي مخصّصة للاستخدام من قبل المقاتلات التكتيكية والقاذفات، وتكتسب سرعة كبيرة لدى إسقاطها، تٌمكّنها من اختراق أمتار من الخرسانة المسلّحة.
كما استخدمت صواريخ "هالبر" الأمريكية والتي تُصنّف ضمن القنابل الانتقامية الحارقة الخارقة للحصون، إضافة إلى قنابل "جدام" الذكية والمصمّمة لاختراق أهداف محصّنة في أعماق الأرض، والتي استخدمها جيش الاحتلال بكثافة منذ بدء الحرب، فوق المناطق السكنية.
ومع بدء الهجوم البرّي اعتمدت إسرائيل بشكل كبير على الطراز Mark 4 من الدبابة ميركافا، الأفضل حاليًا من حيث التكنولوجيا والتسليح والتدريع، إضافةً إلى ناقلة الجند و APCs ، وناقلة الجنود المدرعة إيتان الجديدة ذات عجلات 8 × 8 متعدّدة الأغراض، فضلًا عن ناقلة الجند النمر التي تُعد أحدث وأقوى المدرّعات في الترسانة الإسرائيلية.
في المقابل، ورغم عدم التكافؤ الكبير في القوة، لجأت "حماس" في استراتيجية "المسافة صفر" إلى سلاحين أساسيين، وهما "عبوة العمل الفدائي"، وهي قنبلة تزن نحو 5 كيلوجرامات وتوصف بأنها أيقونة العمل الفدائي ورمز استراتيجية "المسافة صفر"، وتوضع بشكل مباشر على الهدف عبر المقاتلين ثم يتم التصويب عليها، إضافة إلى سلاح الياسين 105، وهي قذائف محلية الصنع برؤوس حربية ترادفية لزيادة قدرتها على تدمير المركبات المدرّعة حتى تلك التي تمتلك دروع تفاعلية، ويتم إطلاقها باستخدام قاذف (أر بي جي) وتصل سرعتها إلى 300 متر في الثانية تقريبًا، بينما تشير تقديرات إلى أنّ مداها يتراوح بين 150 إلى 250 مترًا.
معركة الروح المعنوية
ويرى خبير الأمن الإقليمي اللواء دكتور أحمد الشحات رئيس مركز شاف للدراسات، أنّ أسلوب "الأرض المحروقة"، عادةً ما يلجأ إليه الجيش المهاجِم، داخل المدن من أجل كشف مساحة الرؤية وإزالة كافة العوائق من مسرح العمليات بحيث يكون مكشوفًا تمامًا أمام قوات المشاة والمدرعات التي ستلحق بالهجوم البرّي، وفي المقابل تعتمد القوة المدافعة على استراتيجية "المسافة صفر" والمباغتة عبر الأنفاق، ومن منطلق درايتها الكاملة بكافة تفاصيل وتضاريس مسرح العمليات ما يعطيها ميزة نسبية.
أما عن الأكثر كفاءة بين الاستراتيجيتين في مسرح عمليات مثل غزّة، فيرى الخبير الاستراتيجي أنّ الأمر يتوقف على قدرة الجيش المهاجِم على توفير الإمداد المستمر لقواته لتعويض الخسائر.
ويقول الشحات: "هناك جانب مهم لا يمكن إغفاله في أسلوب "المسافة صفر"، ويعتمد على ضرب الروح المعنوية لجنود العدو، من خلال عمليات تصوير الهجمات، التي توضح سهولة الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة لآلياته وجنوده في أي وقت، رغم حجم القوة النيرانية المستخدمة لحرق الأرض أمامهم"، لافتًا إلى أنّ "الروح المعنوية تُعد السلاح رقم واحد لأي قوات مسلحة في المعارك، خاصة أنه إذا انهارت لن يفلح أي سلاح في تعزيز الموقف الميداني".
ويخلص الشحات إلى أنّ "مثل هذا النوع من المعارك والحروب لا يحسمه سوى الوصول للهدف المعلن، مع القدر الأقل من الخسائر في القوات، فضلًا عن تحقيق الأهداف السياسية لكل طرف".
(خاص "عروبة 22")