فلسطين... القضية والبوصلة

"كتالوج" النازية الكامل في غزّة!

"الكتالوج" هو الدليل الإرشادي الذي يشرح طبيعة الآلة وطريقة تشغيلها وصيانتها والحفاظ عليها، وتُوصَف النازية بأنّها أقسى وأبشع آلة قتل وتمييز وإبادة في التاريخ الحديث. النازية لم تكن فقط "جنون هتلر" وأحلامه العدوانية الجامحة في التوسّع والقضاء على الشعوب التي يراها أدنى، بل كانت "نظرية شاملة في الإبادة"، لها بنيتها الفكرية ومؤسّساتها العسكرية والدعائية، وتدرُّجها في القتل: من الشيطنة إلى الفصل، ومن الفصل إلى التجويع، ومن التجويع إلى الحرق.

تركت النازية "كتالوج" آلتها الفكرية والسياسية والعسكرية، كما تركت نموذجها الدموي، ووثّق العالم "الحر" هذا "الكتالوج" حتى مع اندثار آلتها، وكانت النية من وراء ذلك التعلّم من الماضي والتعهد بعدم تكرار هذا الكتالوج" من جديد.

لكن هذا العالم خدعنا، وسمح باستخدام "الكتالوج" بعد سنوات قليلة من هزيمة النازية، بأن غضّ الطرف عن استخدام العصابات الصهيونية "الكتالوج" نفسه في أرض فلسطين، تمهيدًا لانتزاع دولة قومية عنصرية، تقوم في أصل تأسيسها على "ألف باء كتالوج النازية": "شعب مختار أرقى، أحقّ بالأرض، وأحقّ بالحياة".

صنع نتنياهو نسخة مُحدّثة وموسّعة من النازية بكلّ أدواتها وتفاصيلها ومنطلقاتها لكنّها أشرس وأكثر وحشية

وواصل هذا العالم خداعنا بادّعاء اختلاف ما يحدث للفلسطينيين على يد الصهاينة عمّا حدث لليهود على يد النازي. المُنصفون منهم تحدثوا عن استخدام جزئي لـ"الكتالوج" في بعض محاوره، من دون اعتراف بالتطابق الكامل المتكامل.

حتّى جاء العدوان على غزّة، الذي دخل شهره الثاني والعشرين، ليفضح هؤلاء المكابرين، حين تخرج التقارير الدولية والمشاهد التلفزيونية الحيّة لتقول للعالم إنّ إبادةً يراها تحدث أمامه، لا يقرؤها في كتب المؤرخين، لم تعُد محاولات إنكارها قادرةً على الصمود، على الرَّغم من غطاء الحماية الدولية المتواطئ أخلاقيًا وقانونيًا.

صرخت "وكالة الأنباء الفرنسية" بأنّها، ولأول مرّة في تاريخها الطويل من تغطية الحروب والنزاعات، تستعدّ لنقل خبر موت مراسليها جوعًا. وصرخت متظاهرة في منظمة "يهود من أجل السلام"، بعد عقودٍ من غسل دماغها بسرديّة الدولة اليهودية المظلومة، المضطرّة دائمًا للدفاع عن نفسها: "يا إلهي... هذا هولوكوست".

يختلف بنيامين نتنياهو عن كلّ قادة الكيان السابقين بمدى إيمانه بـ"الكتالوج" الكامل، ونجاحه في تنفيذه وتطبيقه من دون تجزئة أو تزويق، ليصنع في غزّة ما يتجاوز الحرب أو ردّ الفعل بالمفهوم العسكري التقليدي، وليصنع بامتياز نسخةً مُحدّثةً وموسّعةً من النازية، بكلّ أدواتها وتفاصيلها ومنطلقاتها، لكنّها أشرس وأكثر وحشية، وأقلّ مقاومة من "العالم - لا مؤاخذة - الحر".

النازية قامت على "نقاء العرق الآري" وإسرائيل تقوم على "نقاء الدولة اليهودية"

في تقارير الأمم المتحدة، بخاصة تقرير المقرّرة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي (Francesca Paola Albanese)، لم يعُد مصطلح "الإبادة" (Genocide) مجرّد اتهام سياسي، بل توصيف قانوني مدعوم بالأدلة.

مئات العائلات الفلسطينية أُبيدت بالكامل، قُتل الأب والأم والأطفال، وأُسقطت الشجرة من جذورها. ليس هذا قصفًا عشوائيًا، بل خطة منهجية لإبادة مجتمع بكامله، على مرأى ومسمع من العالم.

تمامًا كما استخدم النازيون الحصار والتجويع لإخضاع الشعوب، تستخدم إسرائيل الحصار على غزّة، وتجعل من الجوع أداةً قذرةً للقتل البطيء. قُطعت الكهرباء، ومُنع الوقود، وضُربت مخازن القمح، واستُهدفت قوافل الإغاثة، وقُتل الجوعى وهم يتزاحمون على أكياس دقيقٍ لا تكفي ليوم.

المشهد يُذكّر بمجاعة معسكر "لوبلين" النازي، بل يجاوزه قسوةً وهمجيّة.

لم يسلم البشر، ولم تسلم أدوات إنقاذهم. مستشفيات غزّة خرجت عن الخدمة بسبب القصف المتعمّد، واستهدف الاحتلال الأطباء والمسعفين تحت الأنقاض أو وهم يهرعون لإنقاذ الآخرين. في عُرف إسرائيل، كلّ من يداوي جريحًا هو هدف مشروع.

ما تُسميه إسرائيل بـ"المدينة الإنسانية" أو "منطقة الخيام الآمنة" ليس إلّا نسخة معدّلة من المعسكرات النازية

كما في زمن النازية، حين كان المرضى "عبئًا غير نافع"، صار المرضى في غزّة "أهدافًا أمنية".

النازية قامت على "نقاء العرق الآري"، وإسرائيل تقوم على "نقاء الدولة اليهودية". والفلسطيني في نظرها لا يساوي شيئًا: لا في المواطَنة، ولا في الحقوق، ولا حتى في الحياة.

هناك نظامان قانونيان مختلفان بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على الرَّغم من أنّهم يعيشون على الأرض نفسها.

هناك طرق مخصّصة، وحواجز مُهينة، وجدران عازلة. فصل عنصري موثّق بتقارير منظمات دولية، وأدلّة لا تُكذَّب، وأفران جماعية لأجسادٍ حُرقت حيّةً بنيران القذائف العنقودية والفسفورية المحرّمة دوليًا.

أمّا ما تُسميه إسرائيل اليوم بـ"المدينة الإنسانية" أو "منطقة الخيام الآمنة"، فليس إلّا نسخة معدّلة من معسكرات "أوشفيتز" و"بيركيناو". فيها يُجمّع السكان في مساحاتٍ مكتظّة، بلا سقف يحميهم، بلا ماء، بلا طعام، بلا رعاية، وبلا أي ضمانات.

لكنّ الفرق الكبير أن المعسكرات النازية، على الرَّغم من بشاعتها، لم تُسوّق كـ"حلٍّ إنساني"، بينما تبيع إسرائيل "مدينة الخيام" كمنجزٍ إنسانيّ لعالمٍ ضاع منه معنى الإنسانية.

أحياء كاملة مثل الشجاعيّة وخان يونس وجباليا سُوِّيت بالأرض.

البيوت لم تُهدم فقط، بل مُحيت خرائطها من الوجود.

المساجد والكنائس دُمّرت، المقابر نُبشت، الأشجار اقتُلعت، الآبار رُدمت.

هذا ليس مجرّد قصف، بل تطهير عمراني وبيئي، يشبه ما فعله النازيون في وارسو وكراكوف.

نقلت إسرائيل التجربة النازية من كُتُب التاريخ إلى ميدان التطبيق وفق "كتالوج إبادة" متكامل

وكما مارست آلة الدعاية النازية تزييفًا مُنظّمًا للواقع، تفعل إسرائيل ذلك بذكاء ممزوج بالوقاحة. تُسوّق نفسها كضحية، وتُصوِّر الفلسطينيين كإرهابيين بالفطرة. الأطفال الذين قُتلوا يُحوَّلون إلى "دروع بشرية"، والمستشفيات التي قُصفت يُقال إنها "أوكار إرهابية".

إنّها دعاية مبنية على نزع الإنسانية، وتخدير الضمير العالمي، تسير على مذهب "جوبلز" وزير الدعاية النازي.

نقلت إسرائيل التجربة النازية من كُتُب التاريخ إلى ميدان التطبيق، بندًا... بندًا، وفق "كتالوج إبادة" متكامل، لا ينقصه شيء سوى أن يتحلّى العالم بالشجاعة ويُسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن