تساؤلنا هذا تساؤل، من جهة المبدأ، وأما الواقع المتحقق فشيء آخر، بطبيعة الحال. في لبنان خاصة، في ما يبدو، قول صريح بقيام الحزب على أساس ديني طائفي، ولربما كان واقع الحال في بلدان غيره من العالم العربي شبيهًا بذلك، وان كان ذلك يحدث بكيفية أقل جلاء. لا غرو أنّ شرط التعايش الاجتماعي، نتيجة تضافر عوامل شتى لا نخوض فيها (ونحن على كل غير مؤهلين لذلك)، قضت بأن يكون المشهد السياسي في بلد الأرز على نحو ما هو عليه التعقيد والغرابة. لا نرغب كذلك في النظر إلى غيره من البلدان التي أومأنا إليها بالإشارة. غرضنا هو الوقوف عند بعض مظاهر، وكذا أسباب، التداخل بين الديني والسياسي في عمل الحزب السياسي في العالم العربي.
تعميق الوعي القومي أو الوطني، بالانتظام في حركة استقلالية، كان الحافز لانبثاق فكرة تأسيس الحزب السياسي
ربما وجب، من أجل ذلك، التذكير بمعطى تاريخي يتعلّق بظهور الحزب السياسي وبنشأته وتطوّره في العالم العربي. نقول إنّ هذه النشأة وذلك التطوّر، قد ارتبطا بظهور الحركات التحرّرية في ذلك العالم وعملها في مقاومة الاستعمار ارتباطًا سببيًا مباشرًا. نقصد بذلك أنّ "يقظة الشعور القومي" (أو الوطني كما نقول في المغرب العربي)، وكذا عمل طلائع حركة مقاومة الاستعمار في إشاعة ذلك الوعي، وفي تنظيمه وتوجيهه وجهة الدعوة إلى الاستقلال واستعادة تلك الحرية، كان وراء ذلك كلّه.
وقد يلزم أن نضيف، في معرض التذكير، أنّ حركات المطالبة بالحرية واستعادة الاستقلال في المشرق العربي قد رفعت، في عموم بلاد المشرق العربي، شعار "الدين لله والوطن للجميع"، أما بالنسبة لحركات التحرّر الوطني في البلدان العربية في شمال أفريقيا فقد كان الحال غير ذلك لسبب واضح هو أنه لم يكن للعربي غير المسلم وجود في تلك البلدان وبالتالي لم يحضر ذلك الشعار في الوعي لأنه لم يكن هناك ما يستدعي حضوره. ومنطوق الشعار يفيد أنّ الوطن يسع الجميع، مسلمين ومسيحيين وغيرهم من جهة، ويفيد من جهة أخرى أنّ تعميق الوعي القومي أو الوطني، بالانتظام في حركة استقلالية، كان السند والحافز لانبثاق فكرة تأسيس الحزب السياسي وتنظيمه وتطوير شكل عمله عند مختلف شعوب العالم العربي التي كانت خاضعة للاستعمار.
وإذن فقد كان الاشتراك في المواطنة والانتساب إلى الوطن الواحد الشرطين الضروريين والكافيين، دون غيرهما، لتأسيس الحزب السياسي في العالم العربي. وفي الأغلب الأعم لم يكن عمل حركات التحرير الوطني في تلك البلدان يعدو تكوين حزب وطني واحد أو أنّ الأمر لم يكن ليعدو تكوين أحزاب سياسية قليلة العدد، أحزاب تجتمع عند الهدف الواحد، هو التحرّر من الاستعمار، وذلك أمر طبيعي تستدعيه طبيعة الكفاح من أجل التحرّر وهو، بالنسبة للعالم العربي، حقيقة تاريخية لا نرى أحدًا يجادل في صحّتها.
التشتّت الذي يهدّد الوطن ويضرب المواطنة، تهديدٌ مصدرُه الأساس الخلط بين الدين وبين السياسة
ولقد كان من الطبيعي أيضًا أن تأخذ الصورة التبدل، في دول العالم العربي، بعد استعادة دول ذلك العالم الاستقلال السياسي وهو الهدف المشترك بينها والناظم لعملها الجماعي، وهذا من جهة أولى. ثم للظهور الطبيعي للاختلاف حول "دولة الاستقلال" (مبناها ومعناها) من جهة ثانية. وأيضًا للظهور العلني لقوى اجتماعية جديدة تصدر عن رؤية لا ترى في استرجاع الاستقلال السياسي المطلب الأخير بل إنها تحمل مطالب غير ذلك تدعمها ايديولوجية مختلفة، وهذا من جهة ثالثة.
إذن فقد كان التعدّد أمرًا طبيعيًا. وإذا كنا، في أحاديث سابقة، قد سعينا إلى تبيّن الفرق بين التعدّد الطبيعي والمعقول والتشتّت غير الطبيعي وغير المعقول أيضًا، فإننا نرغب، في هذه الورقة القصيرة، أن ندشّن القول في نمط جديد من أنماط التشتّت الذي يبلغ رتبة تهديد الوطن الواحد والشعب الواحد ويضرب المواطنة في الجدر والأساس. تهديد مصدره الأساس الخلط، المقصود تارةً وغير المقصود أخرى، بين الدين وبين السياسة!
(خاص "عروبة 22")