إنّ اللجوء المعيش هذا يتمُّ وفق تصوُّرٍ زمنيٍّ يحكُمُ إجراءَه الانفعالي العفوي وهو النكوصُ الطبقي إلى "الكينونة المؤقَّتة". وقلتُ الطبقي لأميّزَ طبقة المواطن المستقر من طبقة المواطن المغادِر. وفي هذه الحيثية الهُلامية يمتنع إمكان ظهور طبقة المواطِن المبادِر إلى الحضور الفاعل، أي تتعثَّر "الكينونة الحرَّة"، وتصبح الممرَّات الإجبارية للحفاظ على الحياة هي الفسحات التي ينتظر الإنسانُ أن يصادِفَها في هذا النمط من العيش المرتبك.
قصديَّة الإيذاء هي الفعلُ الممارَس على الشعوب العربية والإسلامية لإبعادها عن إمكان التقدُّم والاستقرار
أصعَبُ لحظات العيش هي الارتباك بالوضع المعيشي، من النواحي كافة، فالتعثُّر السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والصحي ليس سوى الوضعيَّة الراهنة التي تنطلق منها أي فكرةٍ ممكن أن تخطُر في بال مَن يفكِّر في العيش نفسِه. تخيَّلوا مفهوم الهُويَّة والانتماء كيف يربو معرفيًّا في هذه الوضعية، وكيف يمكن للاجئ أن ينظُر إلى الوطن! إنّ أي تصوُّرٍ لإمكان الحياة الكريمة سينبَعِثُ مِن رحم الخوف، أي من ضعْفِ الجَسَد أمام الكوْن، وليس مِن قوة الإنسانِ في التعرُّف إلى الكون. والكارثةُ هنا أنّ الرأيَ سيولَد سلبيًّا تجاه حوادث الكون، إذ يكون التأسيسُ للذهنيات الخائفة قد بدأ يفعَلُ فعلَه في المجتمعات المسيَّبَة قصديًّا في هذا العالم.
نتحدَّثُ اليوم بمرارةٍ عن هذا الاستلاب المُصطَنَع للإنسانِ الحرِّ، حيث إنّ قصديَّة الإيذاء هي الفعلُ الممارَس على الشعوب غير الغربية، وخاصة العربية والإسلامية، لإبعادِها عن إمكان التقدُّم والاستقرار والاشتراك الحرِّ في الحداثة الفائقة التي تسيَّد بها الغربُ العالم. فكيف يفهم الواحِدُ منا واقِعَةَ أن مَن ينجِزُ تقنيَّة الذكاء الاصطناعي، هو نفسُه مَن يستخدمها لقتل الناس في فلسطين، مثلًا؟! أليس غريبًا أنّ من استطاع التقدُّمَ إلى هذا الحدِّ في المعرفة ليس بقادِرٍ أن يغادِر إمكانات الوحشنةِ الكامنة فيه من المراحل الغابيَّة، عندما كان الإنسانُ الأوَّلُ كأنه في غابة وحوشٍ ضاريةٍ يصارِعُ ويأكل ويمارِسُ الغرائز بلا رادعٍ او وازع خُلُقي قيمي؟!
التساؤل عن القيَم ليس من باب ممارسة الوعظ على الشعوب والإدارات السياسية في العالم، بل من باب احترام عقول العلماء النوابت في كل مجتمع، وعدم تحويلهم إلى لاجئين يمارسون العلم مغمَّسًا بالدم؛ وكي لا يحدُثَ في الفكرِ انفصامٌ بين مشهد البوارج النووية في المتوسّط ومختبرات العلم في هارفرد وأوكسفورد وغيرها. فلا يُعقَل أنّ تلك الجامعات تُدرِّسُ القتل والجريمة والإرهاب وإبادة الشعوب!
إنّ الأساسَ في العيش الكريم، عربيًّا، على هذه الأرض أن يكون الإنسانُ من "العالَمين"، أي من الذين يبقون على الدوام في حالة تعرُّفٍ وعلمٍ وفهم وتفسير وتأويل لمظاهر هذا الكون وأشيائه. لذا إنّ الإدارات السياسية الشريرة اليوم هي المجموعات الإنسانية المارقة على الحداثة البشرية التي أنجزها الإنسانُ الحرُّ بعدَ استقرار المعارف في ذهنه على حال من التقدُّم المستمر نحو الأفضل. وليس من حق هذه الأنظمة الحاكمة للدول الكبرى أن تتحدَّثَ باسم الشعوب وتصادِرَ رأيها، فليسَ الإنسانُ الغربي ولا الشرقي ولا الشمالي ولا الجنوبي هو السيءُ الشريرُ بذاتِه، بل إنّ الشرَّ كامِنٌ في الذهنياتِ القاتلة التي أخضَعت نفسَها لسلطة الرِّبح والمال، فلم يعُد الإنسان قيمةَ القيمِ كما أقرَّت ذلك أقدم الفلسفات والتشريعات والأديان والأخلاقيات.
الشعور بالمظلومية التاريخية تستثمِرُه إدارات الدول الكبرى لتنفيذ مطامِعها في السيطرة على مقدِّرات الشعوب
ما تمارسُه هذه الإدارات السياسية السيّئة هو تهجير الإنسان ومنعه من التوطُّن في أرض، أي منعه من المواطنة الحرّة النبيلة، وإبقاؤه لاجئًا معطوب الفكر منفعلًا بتأمين قُوتِه ووضعه المعيشي فحسب. وهنا نسأل مرةً أخرى، أيُعقَل أن يكون إنسانٌ في القرن الواحد والعشرين جائعًا؟ لمَ يكون هناك جوع وفقر طالما أنّ كل مسعى الإنسان في الحياة هو تأمين اللذة والرفاه وطيب العيش؟ لماذا يحكمُ شخصٌ العالمَ إذا كان لا يريدُ ترفيهَه ورفع مستواه المعيش؟
إنّ العيشَ الكريم هو النضالُ الحقيقي للشعوب في سبيل تحقيق كرامة الحضور المعرفي في العالم، لذا لا يمكن لعقلٍ أن يقبل اليوم همجيَّة الاحتلال في تقتيل الناس واستباحة الأرض والعرض بحجَّة الشعور بالمظلومية التاريخية، الذي تستثمِرُه الإدارات السياسية للدول الكبرى لتنفيذ مطامِعها وآرابها في السيطرة على مقدِّرات الشعوب الأخرى.
من هنا نرى أننا مجبرون على التفكير في الخلاص مِن واقعٍ أحلَّنا في وضعية اللجوء، والعيش المؤقَّت المهدَّد بالتهجير والإفساد للاستقرار كل مرّة. وإنّ عنايتنا في هذا الوضع الراهن بإنجاز الخطاب الأخلاقي-السياسي الناجع الذي يوضِحُ للكونِ مَن نحنُ، يجب أن يكون بمستوى أن يلِجَ الذهنيات الأخرى ليجعلها تفهم مَن هي في علاقتها معنا ومع ذاتها. لا يُمكِن العيش في فوضى العولمة، بل يجب إبقاء الإنسان نقطةَ المركز التي يتمحور حولها كلُّ فعلٍ يقوم به أي شعبٍ أو دولةٍ أو فئةٍ في هذا العالم.
(خاص "عروبة 22")