قضايا العرب

التحرّكات الداعمة لغزّة "تحاصر" إسرائيل والغرب: "تصويب البوصلة"!

منذ اليوم لعملية "طوفان الأقصى"، سعت إسرائيل إلى كسب معركة "الرأي العام" العالمي، معتمدةً على "بروبغندا" شرسة من أجل الترويج لروايتها المزيّفة حول وقائع ما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، لا سيما لناحية إتهام حركة "حماس" بإرتكاب "مجازر" خلال العملية و"قطع الرؤوس" و"اغتصاب النساء"، توصّلًا إلى تبرير عدوانها الهمجي على قطاع غزة تحت ثلاثة عناوين أساسية: "الدفاع عن النفس"، وحشد إئتلاف غربي داعم لهذا العدوان باعتبارها تقاتل مجموعة "إرهابية" مماثلة لتنظيم "داعش"، وتشبيه ما تعرّضت له إسرائيل في 7 أكتوبر بهجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة.

التحرّكات الداعمة لغزّة

نجحت تل أبيب في الأيام الأولى من العدوان في تسجيل نجاحات كاسحة في هذا المجال، الأمر الذي دفع بالعديد من الدول الغربية وعلى رأسها أميركا، إلى مؤازرتها عسكريًا وسياسيًا وديبلوماسيًا والتغطية على ما تقوم به من جرائم حرب ومجازر بحق الفلسطينيين، لكن مع مرور الوقت وتحت وطأة المشاهد الدموية الإجرامية الهدّامة لمبادئ القوانين والمواثيق الدولية ولكل المعايير الديمقراطية والقيم الإنسانية، لا سيما مع تناقل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صور تقتيل المدنيين وتناثر أشلاء الأطفال والنساء ضمن إطار عمليات "إبادة جماعية" تقودها آلة الحرب الإسرائيلية واستهدافها المباشر المتعمّد للمستشفيات والطواقم الإسعافية والإعلامية وقطع الماء والغذاء والكهرباء والوقود والإمدادات الطبية عن أهالي غزّة، سرعان ما تبيّن زيف الادعاءات الإسرائيلية فانقلب "السحر على الساحر" مع تبدّل مزاج الرأي العام الغربي باتجاه التنديد بالمجازر الإسرائيلية وإعلاء الصوت دعمًا للفلسطينيين وتأييدًا لوقف النار.

وتحت وطأة ارتفاع منسوب الضغط الداخلي في أكثر من عاصمة غربيّة، بات من الممكن اليوم رصد تحوّلات ملحوظة في مواقف الإدارات السياسية وميل الغرب  أكثر نحو ضرورة التوصل إلى "هدن إنسانية" وإدخال المساعدات الإغاثية للفلسطينيين المحاصرين في غزّة، إلى جانب بروز خلافات وانقسامات علنية في صفوف الفريق الواحد، سواءً داخل الإدارة الأميركية في ظل إقرار الخارجية الأميركية بوجود انقسام داخل أروقتها جرّاء الدعم الأميركي للحرب الإسرائيلية على غزّة، فضلًا عن  رفع منظمة حقوق الإنسان الأميركية "مركز الحقوق الدستورية" دعوى قضائية أمام محكمة اتحادية ضد إدارة الرئيس جو بايدن بتهمة التواطؤ مع تل أبيب على ارتكاب "إبادة جماعية" بحق سكّان القطاع، أو مثلًا في فرنسا حيث عمد العديد من السفراء الفرنسيين في الشرق الأوسط ودول المغرب العربي، في بادرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للدبلوماسية الفرنسية، إلى توقيع مذكّرة جماعية وإرسالها إلى "الإليزيه" للإعراب عن اعتراضهم على التحوّل المنحاز لإسرائيل الذي اعتمده الرئيس إيمانويل ماكرون بشكل يخالف موقف باريس "المتوازن التقليدي" بخصوص القضية الفلسطينية.

هذا الواقع، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك إلى الإقرار بأنّ إسرائيل خسرت "الرأي العام" في أوروبا، متوقعًا كذلك أن يظهر "الاحتكاك مع الأميركيين" خلال أسابيع قليلة، بينما بادر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت إلى التنقل بين وسائل الإعلام الغربية لمحاولة تجنيد الدعم لاستمرار الحرب، قائلًا: "وضعنا الدولي ليس جيدًا"، وهو ما أكدت عليه "القناة الثانية عشرة" العبرية بالقول: "بعد مرور شهر على الحرب أصبحنا نواجه واقعًا جديدًا، فالصور في وسائل الإعلام الدولية هي صور القتل والدمار في غزّة، وليست الصور القادمة من المستوطنات".

ما تقدم لا يمكن أن ينفصل عن مجموعة من التحركات الشعبية والحقوقية المناهضة للحرب الإسرائيلية التي كانت قد شهدتها العديد من الدول الغربية، ونجحت في تشكيل عامل ضغط كبير على حكوماتها. ففي لندن، تظاهر مئات آلاف المتظاهرين في العاصمة البريطانية، في مسيرة مؤيّدة للفلسطينيين ومطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، من تنظيم "ائتلاف أوقفوا الحرب"، وهو ما أدى إلى إقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان، بفعل انتقادها للشرطة، بينما كانت قد وصفت التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بأنها "مسيرات كراهية".

وفي إسبانيا، تظاهر الآلاف وسط مدينة برشلونة لمطالبة الحكومة الإسبانية بوقف فوري لتجارة الأسلحة مع إسرائيل، حيث شهدت المدينة اشتباكات بين ضباط الشرطة والمتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين أثناء محاولتهم دخول محطة قطار في برشلونة. أما في بلجيكا فقد نظّم عشرات الآلاف مسيرة في بروكسل، للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. كما شهدت كلٌّ من العاصمة الفرنسية باريس ومدينة بوردو مظاهرات مؤيّدة لقطاع غزة، طالب المشاركون فيها بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات للفلسطينيين.

هذه التظاهرات، كانت قد شملت أيضاً دولاً أخرى، كالسويد وألمانيا والنمسا والنرويج وهولندا وإيرلندا، إلى جانب تحركات رمزية كانت قد برزت خلال فعاليات رياضية، كتلك التي قامت بها جماهير أندية أوروبية بارزة مثل ريال سوسيداد وأوساسونا وسيلتيك وباريس سان جيرمان في مباريات رسمية، دعمًا للفلسطينيين.

لكن الأبرز يبقى التحركات التي كانت قد شهدتها العديد من الولايات والمدن الأميركية، بالرغم من تعليق جامعة كولومبيا أنشطة جمعيتين طالبيتين، بعدما نظّمتا تظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار، متهمةً إياهما "بانتهاك متكرر" لقواعد الجامعة.

وبينما كان محتجون أميركيون قد قاطعوا خطاباً لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أثناء جلسة استماع في الكونغرس في بداية الشهر الحالي، بهتافات وكفوف مغطاة باللون الأحمر، كانت لافتة أيضًا مشاركة يهود في تظاهرات داعمة لوقف إطلاق النار، بعد بروز دور لجماعات يهودية في أميركا ضد الحرب، في مظاهرات عمت نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو وشيكاغو حيث تجمع المئات من النشطاء الأمريكيين اليهود وناشطين آخرين في محطة قطار رئيسية وسط المدينة خلال ساعة الذروة صباح الاثنين الماضي، وأغلقوا مدخل القنصلية الإسرائيلية، مطالبين بأن تضغط الإدارة الأمريكية باتجاه وقف إطلاق النار في غزة، وهتف المتظاهرون "أوقفوا النار الآن" عندما قامت الشرطة بإخراج العديد منهم من المبنى وأيديهم مقيّدة خلف ظهورهم، والعديد منهم كانوا يرتدون قمصانًا سوداء كُتب عليها "ليس باسمنا" في إشارة إلى رفض ارتكاب المجازر الإسرائيلية وعمليات "الإبادة الجماعية" باسم اليهودية.

كذلك، خرج الآلاف في مسيرة بمدينة "كيب تاون" في جنوب أفريقيا دعمًا للفلسطينيين في قطاع غزّة وإدانةً لـ"نظام الفصل العنصري" في إسرائيل، بمشاركة عدد من رجال الدين الذين هتف بعضهم "فلسطين حرّة" مطالبين بطرد السفير الإسرائيلي وإغلاق سفارة بلاده في جنوب أفريقيا.

وفي هذا السياق، يوضح المدير التنفيذي لمعهد الدراسات المستقبلية محمد شهاب الإدريسي لـ"عروبة 22"، أهمية هذه التحرّكات لسببين: "الأول تاريخي مرتبط بإعادة الصورة الأساسية للصراع، أي شعب يتعرّض للإحتلال في مواجهة الصهيونية، التي كانت معتمدة في السابق كحركة عنصرية في الأمم المتحدة، قبل أن ينجح الإسرائيليون في إسقاط هذا التوصيف. أما الثاني فهو يعود إلى أنّ الإسرائيليين كانوا قد نجحوا في الحصول على تعاطف غربي كبير مباشرةً بعد عملية "طوفان الأقصى"، فأتت هذه الأصوات لتعيد توجيه البوصلة نحو توصيف إسرائيل ككيان عنصري إستيطاني، ولتذكّر بأنّ الصراع الفلسطيني مع هذا الكيان لم يبدأ في السابع من تشرين الأول الماضي".

ويعتبر الإدريسي أنّ "هذه التحركات في دول العالم تُساهم بالدفع نحو وقف إطلاق النار، نظرًا إلى أنها تحصل داخل الدول التي تدعم حكوماتها إسرائيل"، مشيرًا في الوقت عينه إلى كون "العديد من الدول الغربية لديها، في الفترة المقبلة، إستحقاقات إنتخابية هامة، على رأسها الولايات المتحدة، والصوت المناصر للقضية الفلسطينية قادر على التأثير"، مع التذكير في هذا السياق بأنّ "جزءًا كبيرًا منهم كان قد اقترع لصالح الرئيس جو بايدن في الإنتخابات الماضية، وبالتالي فإنّ الصوت المرتفع من قبل هؤلاء الناخبين سيجعل الإدارة الديمقراطية تعيد التفكير جديًا بالواقع المستجد وتبعاته الانتخابية عليها، خصوصًا إذا ما نجح المحتجون بتنظيم أنفسهم أكثر في المرحلة المقبلة".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن