مراجعات

أسئلة الدولة الوطنية في خطاب الإسلاميين: الحالة التونسية نموذجًا

تظلّ تجارب الانتقال الديمقراطي التي شهدتها بعض الدول العربية منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حقلًا دراسيًا خصبًا لتقييم مكتسبات الحداثة العربية تقييمًا موضوعيًا. وتُعدّ في هذا الصدد الحالة التونسية من بين أبرز تلك التجارب بحكم ما فتحته خلال بدايتها من آمال في تجاوز التصوّرات الثقافوية النمطية التي تنظر إلى العرب باعتبارهم استثناءً تاريخيًا ووجوديًا في مجال عدم القابلية للديمقراطية والحداثة بكلّ أبعادها السياسية والثقافية والحضارية.

أسئلة الدولة الوطنية في خطاب الإسلاميين: الحالة التونسية نموذجًا

يندرج هذا الكتاب الذي أصدره الباحث التونسي ياسين كرامتي، ضمن ذلك الرهان المعرفي والبحثي في دراسة تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية من خلال البحث في علاقة الإسلاميين بالدولة الوطنية على صعيدي الفكر والممارسة، وجاء تحت عنوان "الإسلاميون والدولة الوطنية: من خطاب الجماعة وتحوّلاته إلى تسيير دواليب الحكم. مقاربة سوسيوأنثروبولوجية" (صدر الكتاب عن مخبر الفكر الإسلامي وتحوّلاته وبناء الدولة الوطنية، 2022).

يتضمّن الكتاب عنوانين فرعيّين مثبتين داخل متنه، يُحدّدان هويته العلمية ونوعيتها لأنّ العنوان الرئيسي المثبت في غلاف الكتاب (الإسلاميون والدولة الوطنية) حمّال لأوجه كثيرة من التأويل. ويتمثّل العنوانان الفرعيان: من خطاب الجماعة وتحوّلاته إلى تسيير دواليب الحكم؛ مقاربة سوسيوأنثروبولوجية.

بناءً على ذلك فهو ليس بحثًا تاريخيًا يترصّد الأحداث ويبوّبها في حقب تاريخية محدّدة في تعامل الإسلاميين مع الدولة الوطنية بتونس، ولا بحثًا في العلوم السياسية أو الدراسات القانونية يتعرّض لعلاقات الإسلاميين بمختلف المؤسّسات الدستورية والقوانين التي كرّستها دولة ما بعد الاستعمار المباشر.

وبهذا المعنى، الكتاب بحثٌ سوسيو ــ أنثروبولوجي يعتمد على تفاعل المناهج ومقاربات متعدّدة التخصّصات للوقوف على أهمّية المعطيات السوسيوثقافية التي تفصل خطاب الإسلاميين التأسيسي النظري عن واقع الممارسة السياسية العملية بعد الوصول إلى سدّة الحكم عقب انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 خاصّة، وبدرجة أقلّ انتخابات 2019.

ولئِن اعتمد المؤلّف نظام الفصول مميّزًا بين أربعة فصول، فإنّه من الممكن النظر إلى العمل بصفته قسمين أو بابين بارزين: باب يهمّ مواصفات خطاب الإسلاميين التأسيسي من خلال قضايا المرأة والموقف من القضية الفلسطينية والغرب خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين خاصّة، وباب ثان يُركّز على الفجوة الفاصلة بين القول والفعل أو الخطاب والممارسة بعد الوصول إلى سدّة الحكم غداة انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ثم انتخابات 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، ثم انتخابات 2019.

تقوم الفكرة الأساسية للكتاب على ثلاث فرضيات أساسية، تهمّ الأولى تنوّع الخطاب الإسلامي بتونس ومراكمته لمدوّنة متعدّدة تمتد من لحظة البدايات والـتأسيس أي الجماعة السرية والمحظورة، إلى اللحظة الراهنة أي الحزب المعترف به الذي فاز بانتخابات 2011 و2019 فكلّف بتشكيل الحكومة. أما الفرضية الثانية، فتهمّ وجود بون دائم يفصل التنظير عن الممارسة. بينما تتعلّق الفرضية الثالثة بوجود ضوابط محدّدة للحداثة السياسية يستحيل دونها تحقيق الرهانات المأمولة.

حاول المؤلّف الإجابة عن سؤال محوري وصريح: كيف السبيل إلى إرساء حداثة سياسية بتونس؟ وتتفرّع عن هذا السؤال أسئلة فرعية كثيرة من قبيل: إلى أيّ حدّ نجح الإسلاميون في تطوير نموذجهم السياسي والاجتماعي المنشود بعد وصولهم إلى الحكم سنة 2011؟ وما علاقة الإسلاميين بالدولة الوطنية؟ وهل تمّ تطويع الدولة الوطنية لخدمة ذلك الأنموذج الذي صاغه منظّروهم منذ سبعينيات القرن الماضي أم على العكس من ذلك أخضعتهم الدولة الوطنية إلى منطقها واستحقاقاتها؟ ما دور البنيات الذهنية والمجتمعية والاقتصادية في تسيير الدولة وصياغة مواطنة حقيقية؟

بذل الباحث جهودًا مضنية في استقصاء مدونته البحثية، إذ عاد إلى النصوص المؤسّسة في مختلف الدوريات التونسية والعربية التي صاغ فيها عناصر التيار الإسلامي بتونس تصوّراتهم، مثل مجلّة المعرفة ومجلّة 15-21 وجريدة الفجر، ومحاضراتهم ومؤلّفات أبرز أعلامهم مثل مؤلّفات صلاح الدين الجورشي وأحميدة النيفر وراشد الغنوشي والصحبي عتيق وعبد المجيد النجار. كما رجع إلى بعض الوثائق مثل اللوائح الأساسية في فترة تأسيس الإسلاميين التقدّميين واللائحة التقييمية للمؤتمر العاشر لحركة النهضة بتونس.

وقد انفتح المؤلّف على مصادر ومراجع متنوّعة وبلغات مختلفة، ففي السياسة الشرعية والأحكام السلطانية ذكر الماوردي وابن تيمية وابن أبي الربيع، وفي المراجع الحديثة استعان بمقاربات ماركس وفرويد ودي سوسير وفيبر وخاصة بيير بورديو.

وبقدر ما كثّف الباحث من استخدام الجداول لتبويب مواد بحثه، مما يتطلّب من القارئ نفسًا طويلًا في التركيز، فإنّه تجنّب اللجوء إلى الأسلوب المباشر في إطلاق الأحكام، لذلك تعمّد عدم ذكر الأسماء بحكم أنّ مناط اهتمامه منعقد أساسًا في إشكاليات فكرية تروم تعميق التوجّهات النقدية ومباشرة عملية تصحيح ونقد ذاتي لمختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين.

يمكن تحديد أهمّ قضايا الكتاب في القضايا الاصطلاحية والمفاهيمية منها التباس استخدام صفة الإسلاميين من منطلق أنّ هذا اللفظ كان شائعًا قديمًا، ومن ذلك مصنّف الأشعري الشهير حول مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين. كما يُطلق في تونس المعاصرة على عديد الاتجاهات المتباينة مثل حركة الاتجاه الإسلامي وتيّار الإسلام التقدّمي وحزب التحرير ومختلف الاتجاهات السلفية.

لذلك حاول المؤلّف استقصاء آثاره في الدراسات الغربية والدوائر المرتبطة بها، بما تطلّب الإحالة على عديد الكتابات المهمّة لجون فرانسوا كليمان وغيره، والأمر نفسه مع مصطلح الخطاب الديني، مستشهدًا بما ردّده بعض الملاحظين بأنّ هذا المصطلح ابتكرته دوائر الاستخبارات الأمريكية أثناء بحثها عن طرق التعامل مع الإسلام والمسلمين، لكنه لا ينساق كثيرًا وراء هذا الرأي. إذ أشار إلى الأهمية القصوى التي يكتسيها البحث في الخطاب الديني في تونس والدول العربية والغربية.

أمّا مفهوم الدولة الوطنية فقد عرّفها بأنّها "ليست مجال تفاهمات وتنازلات وحسب، وإنّما كذلك مجال نزاع ونضال وصراع من أجل التسيير الرمزي والفعلي لحياة الناس وتوجيه نظرتهم للعالم باستخدام التعريفات الخاصّة بالوطنية والمصداقية والتضحية والتفاني والإخلاص" (ص149).

بينما تتّصل القضايا الهيكلية والمؤسّساتية بتساؤل المؤلّف عن مدى مستقبل التنظيمات السياسية في ظلّ غياب الفعل الهيكلي والمؤسّساتي الذي ينتج قرارات وتوجّهات في إطار رؤية تشاركية، في حين تهمّ القضايا المجتمعية والحضارية تنبّه المؤلّف إلى أنّه لا مستقبل للحداثة السياسية في تونس دون انتهاج سياسات واضحة للذاكرة والعدالة الاجتماعية، وهو يدعو في هذا السياق التنظيمات الحزبية إلى صياغة مشاريع وطنية حقيقية والانصهار في مشروع الدولة الوطنية باعتباره القاطرة الأساسية لتحقيق دولة المواطنين والقوانين والتعدّدية والمؤسّسات.

إجمالًا، طرح المؤلّف مختلف القضايا طرحًا إشكاليًا ومركّبًا في آن، لذلك كثرت التساؤلات التي تبحث عن أجوبة من أجل توجيه النظر إلى ضرورة التفكير النقدي ومباشرة مراجعات معمّقة للفاعلين الاجتماعيين والسياسيين التونسيين، ومن ثمة فقد اجتنب إطلاق الأحكام وعمد إلى تنسيب نتائج عمله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن