إنّ هذا الخطاب في الحقيقة له رصيد تاريخي في تاريخ مفهوم الفرد، والذي غالبًا ما كان غائبًا وسط زحام الجماعة في السياق العربي، كما يرجع في جزء منه الى الجانب الديني، وذلك لعدة اعتبارات، منها مثلًا أنّ عملية إعلاء الاستشهاد رغم أهميته في الحركات التحرّرية، إلا أنه أفرز بالمقابل رغبة في الموت، لأنّها بوابة لتحقيق كرامة الجماعة، رغم أنّ الجهاد في أصله هو مطلب لتحقيق الحياة الدنيوية، إلا أنه صار إمكانًا وجوديًا.
هذا الشعور جعل أمر الموت أمرًا مقبولًا ومُرَحّبًا، ما دام أنه يفتح أفق العدالة السماوية والأرضية على حد سواء، وذلك على خلاف ما يُمثّله موت الإسرائيلي، لأنه في تراثهم الديني، يبقى استثناءً وتكسيرًا للعادة ويجب أن تقام الدنيا كي لا يتكرّر هذا الاستثناء، فهل استحضار التذرّع الديني في خضم الكفاح التحرّري، مدعاة لشيطنة المقاومة الفلسطينية؟ ألا تعمل إسرائيل أيضًا على توظيف الوعد الديني لتحقيق طموحها الوطني؟.
ثم إنّ حركات المقاومة، التي وإنْ اختلفنا معها من ناحية المنطلقات والتوجهات الدينية، فإنّنا نراهن على أنها بالنهاية تسعى بالدرجة الأولى لتحقيق مطلب الحياة الكريمة بناءً على الحافز الديني الذي يجيز الجهاد من أجل استرجاع الأرض والعرض، فنكون هنا أمام تغليب كفة الدنيوي على الديني.
الهروب نحو التواكل الإلهي لتبرير العجز الثقافي والسياسي العربي
وبالرغم من ذلك، تُتّهم هذه الحركات بالإرهاب والعنف ويتم شيطنة المقاومة انطلاقًا من إيديولوجيتها الدينية، وهي على ما يبدو نكبتنا المفهومية الجديدة التي تحاول أن تدخل بنية مفهومية تشيطن المقاومة حتى في سياق الإعلام العربي، في حين أنّ كلّ ما يستحضر من تذرّع ديني في المضار الفلسطيني لا يخرج عن مطلب التغني بالحياة، بالأرض، بالزيتون، بالزعتر، بالكوفية.
صحيح أنّ التذرع الديني لا يعكس دومًا توظيفًا إنتاجيًا، إذ قد يستحضر في عدة سياقات ووفق غايات متعدّدة فنصبح أمام توظيف ريعي غير إنتاجي، من خلال:
ــ صبغ الدعاء بفعالية دنيوية / واقعية: يعكس الدعاء مكانة هامة في حياتنا نظريًا وعمليًا، لكنّه يتحوّل في خضم البؤس الحياتي إلى محرّك مساعد ومسعف في تحقيق كفاحنا الأرضي، فقد فوّضنا كلًا من العناية والإرادة الإلهية نيابةً عنّا في خوض دفة معاركنا في فلسطين نحو الوجهة التي ترضاها لنا الإرادة الإلهية، بعد أن فقدنا الأمل في إمكاناتنا البشرية، إنّه نوع من الهروب نحو التواكل الإلهي لتبرير العجز الثقافي والسياسي العربي، فكل ما صرنا نبرع فيه هو تقوية ذاكرتنا الجمعية بتعداد النكبات.
ــ رفع الأقوال لمرتبة الأفعال الإنجازية: عادةً ما نجعل من أقوالنا أفعالًا إنجازية بمجرد قولها، حيث تسد الأقوال مكان الأفعال، فنظل حبيس القول دون محاولة إنجازه، فالتظاهرات مثلًا في البلدان العربية لم تصمد طويلًا لتأخذ شكلًا مؤثرًا لا داخليًا ولا خارجيًا، فقد ظلّت حبيسة المرحلة الانفعالية الأولى ثم ارتكنت إلى مقعد المتفرّج الذي فوَّض أمره للمشيئة الإلهية، على خلاف الاحتجاجات التي تعرفها بعض الدول الغربية والتي اتخذت إشكالات متميّزة، نصير هنا أمام نمط من التفكير الريعي الاتكالي غير الإنتاجي الذي يُعيد بلورة وعي زائف يساعد على تقبّل الخسارة والرضى بها كيفما كانت.
لا تُتّهم إسرائيل بما هي ترجمة لوعد ديني بتحقيق كيان سياسي على أساس الإرهاب أو التعصّب الديني
يمكن القول إنّ عملية توظيف الدين دنيويًا لا يقتصر على الحركات المقاومة، بل إنّ إسرائيل نفسها تستغلّ الوعد الديني لترجمة طموحها الوطني، لكنه يحضر بشكل موجّه وفعّال ومدعّم بشكل كبير من طرف القوى الغربية، فالمجال الدنيوي هنا مساعد لتحقيق المطلب الديني مما يجعل كل السُّبُل متاحة لتحقيق هذا الوعد.
نحن هنا أمام تغليب كفة الديني على الدنيوي، وبالرغم من ذلك لا تُتّهم إسرائيل بما هي ترجمة لوعد ديني بتحقيق كيان سياسي على أساس الإرهاب أو التعصّب الديني.
إنّ الحركات الجهادية التحرّرية من الاحتلال، سواء كانت اسمًا أو عنوانًا أو غِلافًا، هي في صورتها الراهنة باب لاستنجاد الرغبة في القتال من أجل تحرير الأرض لتحقيق مطلب الحياة الدنيوية وليس إرهابًا دينيًا.
(خاص "عروبة 22")