رغم تأكيد سعيد على وحدة المنوال الذي نسجت عليه أعمال المستشرقين الأوروبيين في تأكيد الصورة الرائجة حول الثقافة العربية الإسلامية دونما تساؤل جذري حول مدى صحتها ومصادر إنتاجها، فإنه يفرّق تاريخيًا وثقافيًا، كميًا ونوعيًا، بين نمطين من الإستشراق:
أولهما البريطاني ـ الفرنسي وهو النمط الرئيس للتصورات الاختزالية المتوارثة والمقننة عن فضاء شرقي واسع يضم عوالم متباينة، تجمع بين الهند وشرق المتوسط بأكمله، ونصوص الكتاب المقدس وأقاليمه، وتجارة التوابل، والجيوش الاستعمارية، والتراث الطويل من الإداريين الاستعماريين، وأعداد لا تحصى من الخبراء والمساعدين الشرقيين، وكوكبة من الأفكار الشرقية من قبيل: الاضطهاد الشرقي، والأبهة الشرقية، نمط الإنتاج الأسيوي، وعدد كبير من الملل والفلسفات والحكم الشرقية المدجنة للاستخدام المحلي الأوروبي.
أما ثانيهما فيتداخل فيه نمط فرعي انتمى تاريخيًا لدول أوروبية لم تكن قريبة من عالم الشرق إلى الدرجة التي توافرت لبريطانيا وفرنسا، كألمانيا وإيطاليا، وإن كان قد نسج على منوال قريب منهما. مع نمط آخر تنامى بعد الحرب العالمية الثانية وهو النمط الأمريكي الذي راج مواكبًا سيطرة الولايات المتحدة على الشرق، فصارت تتناوله بالصور النمطية والمفاهيم الاختزالية نفسها وإن عبر وسائل مختلفة، لا تعوّل على كتابات الرحالة ولا على أعمال الروائيين، ولا على السير الذاتية لكبار الدبلوماسيين، بل تعتمد على دراسات المناطق، وجهود الخبراء المنتمين مباشرة للحقل السياسي، والأقرب صلة بدوائر الهيمنة الإستراتيجية، الذين يعملون، صراحةً أو ضمنًا، تحت رعاية المؤسسات الرسمية.
حاول تذكير الغرب بقيمه فيما كان الغرب يخونها عبر كل أشكال الهيمنة وأنماط الاستعمار
قام إدوارد سعيد بتحليل الأعمال الأدبية المنتمية للنمط الإستشراقي الأول، ثم طرح الأسئلة الإشكالية بل المحرجة على نمط الإستشراق الثاني، فأطلق موجة مراجعات متفاوتة القوة سواء داخل الشرق وبين مثقفيه الكبار، الذين بدأوا في إعادة تأمّل مواقفهم من الغرب، ومقاربته من منظور التزامه بقيمه وادعاءاته حول الحرية والعدالة. أو حتى داخل الغرب نفسه، وبين مفكّريه الكبار، أرباب النزعة الإنسانية الذين أخذوا يستكشفون التناقضات العميقة لديه بين الخطاب الفلسفي والممارسة العملية.
في كتابه الثاني البارز "الثقافة والإمبريالية" 1993م، قدّم سعيد نقدًا مباشرًا للمركزية الأوروبية ثم الإمبريالية الأمريكية، فضح من خلاله النزعة الكولونيالية التي نالت من أربعة أنحاء الكرة الأرضية، مؤكدًا على أهمية التعددية الثقافية كضرورة لازدهار النزعة الإنسانية، التي تقتضي البعد عن أية ادعاءات بامتلاك رسالة حضارية، تنطلق من سمو عرقي أو تميّز ديني، لا تعدو في الحقيقة أن تكون تبريرًا قبيحًا للنزعات الاستعمارية ومشروعات الهيمنة الإستراتيجية على العالم جنوبًا أو شرقًا.
أيقونة نضال إنساني تبدو معنا في قلب الطوفان رغم صيرورتها خارج المكان
في هذا السياق يكاد إدوارد سعيد يجسّد المشروع الأثير للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حول السلام الدائم، الذي كان بمثابة الإلهام لكل أشكال التنظيم الدولي المعاصر من عصبة الأمم إلى الأمم المتحدة بكل هيئاتها، المفترض أن تشرف على تكريس العدالة بين البشر ورعاية السلم بين الشعوب كقيم تنويرية تضمن ازدهار الديمقراطية الليبرالية في شتى المجتمعات الإنسانية.
لقد حاول سعيد منطلقًا من إنسانيته النبيلة، ومرجعيّته المتسقة، تذكير الغرب بقيمه هو نفسه مطلع التسعينيات، فيما كان الغرب يخونها باستمرار منذ القرن ونصف القرن عبر كل أشكال الهيمنة وأنماط الاستعمار، التي جرت وقائعها الأكثر وحشية داخل العالم العربي، خصوصًا في الجزائر.
فيما أخذت الولايات المتحدة، وطنه الإسمي، تفتك بتلك القيم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الأقل، خصوصًا في فيتنام والعراق وصولًا إلى غزّة، المدينة الصغيرة، التي دعمت عدوان إسرائيل الوحشي عليها ببواخرها وحاملات طائراتها بل وغواصاتها النووية وذخائرها الفتاكة التي زادت قوّتها التفجيرية على قنبلتين نوويتين، الأمر الذي يجعل منها دولة مارقة ليس فقط على قواعد السلم العالمي، بل أيضًا على مثل التنوير الغربي، كما يجعل من إدوارد سعيد أيقونة نضال إنساني لا تزال حية رغم الموت، تبدو معنا في قلب الطوفان رغم صيرورتها خارج المكان.
(خاص "عروبة 22")