بعد أن بدأت المنطقة تتجه نسبياً نحو الهدوء وأجواء المصالحة، إثر اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية – الإيرانية، الذي توسطت فيه الصين خلال الربع الأول من العام 2023، بدا أن الربع الأخير من هذا العام يخفي في جعبته أجواء مناقضة لما شهدته بدايته. فالعنوان الأساسي لهذه الأجواء ينطوي على الكثير من المآسي والمفآجات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، التي ستؤثر بشكل واضح على العديد من دول العالم وعلى وجه الخصوص منطقة الشرق الأوسط.
ففي السابع من أكتوبر الماضي، نشبت الحرب بين حركة حماس وإسرائيل (المحتلة للأراضي الفلسطينية). والحقيقة المؤكدة أنه إذا كانت الحرب متكافئة بين من يدافع عن وطنه من المحتل والعدو المغتصب، أي من دون حصار وتجويع من جانب إسرائيل، ومن دون دعم لا محدود من واشنطن لانتصرت غزة على الفور، وهُزمت إسرائيل، لكن المشكلة دائماً ليست في إسرائيل، وإنما في أمريكا (القطب الأوحد) في عالم اليوم حتى الآن.
إن ما تقوم به قوات العدو الإسرائيلي من جرائم وحشية، ترقى إلى جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ضد المواطنين العزل في قطاع غزة، تعيد إلى الأذهان جريمة الغزو الأمريكي للعراق، منذ أكثر من عشرين عاماً كانت خراباً ووبالاً على العراق وأهلها، وكذا ليبيا وسوريا، بل وعلى المنطقة العربية، وكان ذلك بحجة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل ويشكل تهديداً للسلام الدولي.
والحقيقة التي لا مفر منها هي أن واشنطن فقدت الكثير من مصداقيتها في هذه الحرب، كما تفقدها أيضاً الآن في دعمها المطلق لإسرائيل في حربها على غزة ودعمها اللامحدود رغم مقتل أكثر من 12 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء العزل، وقامت بقصف المدارس والمستشفيات والمنازل والمخابز، وقطعت الكهرباء والانترت وقصفت سيارات الإسعاف ومنعت دخول المساعدات مخالفة بذلك كل القوانين الدولية، مما يُعد جرائم حرب مكتملة الأركان، كما قامت إسرائيل بتنفيذ هجمات أدت إلى نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين مما يعد تهجيراً قسرياً، ومطالبة وزير إسرائيلي بإلقاء قنبلة نووية على غزة، مما يعد تأكيداً على امتلاك إسرائيل سلاح نوويا ولم يجرؤ أحد على محاسبتها، لأنها الابن المدلل لواشنطن، وهو ما يعد أيضاً عاملاً رئيسا وراء نقص الثقة في الشرق الأوسط وتقويض فرص السلام والاستقرار في المنطقة وبالتأكيد تشكل هذه الأفعال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي ولكنها بدعم أمريكي فاضح. ورغم مطالبة دول العالم بضرورة وقف إطلاق النار، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تتحدى العالم، عبر استخدامها حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار لوقف إطلاق النار.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هو ما هي أوراق الضغط التي يمتلكها العرب للتأثير على الدعم اللامحدود من جانب واشنطن تجاه إسرائيل في ظل الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة؟
في هذا الصدد، فإن من أبرز الأوراق التي يمتلكها العرب الآن، ولا سيما على المستوى الشعبي، سلاح المقاطعة الاقتصادية للشركات الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الإسرائيلي، وهو السلاح الذي أثبت فاعليته في العديد من المواقف، وهو ما قد يؤدي إلى إلحاق خسائر اقتصادية كبيرة بإسرائيل والدول الداعمة الغربية لها.
ومن أبرز الأوراق السياسية التي يمكن للعرب التعويل عليها أيضاً في محاولة التأثير على الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، محاولة الاستفادة من طبيعة اللحظة الدولية الراهنة والتي تتسم بكونها لحظة كاشفة عن نظام دولي جديد في مرحلة مخاض يتسم بتعددية الأقطاب، وتبرز خلاله العديد من القوى الدولية المؤثرة على المستوى الدولي، وعلى رأسها الصين وروسيا، حيث يمكن للدول العربية من خلال الاستفادة من علاقاتها القوية مع هاتين القوتين الصاعدتين في محاولة التوصل إلى حلول مهمة للقضايا والأزمات العربية وعلى رأسها الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة.
إن التدخل الأمريكي في شؤون منطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من الدوافع الأمريكية المعلنة من ورائه، كنشر الديمقراطية والتنمية وغيرها من الشعارات الأمريكية البراقة، لم تجن منه دول المنطقة وشعوبها، سوى الخسارة والانقسامات والتشرذم، وليس ثمة مثال أو دليل أبلغ على ذلك من استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طيلة عقود كثيرة، نتيجة الدعم والانحياز الأمريكي المطلق لتل أبيب، على حساب الحقوق المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني، وكذلك الأوضاع في الدول التي شهدت تدخلاً أمريكياً فيها، كالعراق وسوريا وليبيا.. إلخ.
لقد آن الآون للبحث عن مسار بديل، أو طريق جديد، للبحث عن السلام والتنمية في منطقة الشرق الأوسط، لا تكون أمريكا طرفاً أو مساهماً فيه، بعد أن تمت تجربة الحلول الأمريكية، وثبت عدم جدواها في إفادة دول وشعوب المنطقة وقضاياها الجوهرية. فالصراع الجاري الآن في قطاع غزة، بحاجة إلى أطراف وقوى فاعلة جديدة، تدرك تماماً حاجة المنطقة إلى الأمن والاستقرار والتنمية، من خلال الحوار والتشاور لحل الصراعات الجذرية في المنطقة، وعلى رأسها الصراع الحالي في غزة، بما ينعكس إيجابياً على دول وشعوب المنطقة من جهة، ويجنبها ويلات وتداعيات صراع أكبر لن تقتصر آثاره وانعكاساته على المنطقة فحسب، وإنما ستمتد أيضاً إلى العالم بأسره.
("الأهرام") المصرية