قضايا العرب

هولوكوست "الطوفان".. الصهيونية تستنسخ من النازية "الكذبة الكبرى"!

القاهرة - محمد بصل

المشاركة

بعد أسبوعين من عملية طوفان الأقصى استضافت القناة 12 الإسرائيلية رئيس جهاز الموساد الأسبق تامير باردو للتعليق على الأحداث، سألته المذيعة: "هل يمكن أن نقارن بين ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وبين الهولوكوست؟" بدا التعجّب على وجه باردو وأجاب بسرعة: "لا تجوز المقارنة بين الأمرين، فعملية حماس ارتُكبت ضد دولة، لكن الهولوكوست ارتُكبت ضد شعب لا دولة له".

هولوكوست

لم يكن هذا السؤال اعتباطيًا أو مبالغةً غير مقصودة من المذيعة أو القناة التي كانت تتعمّد وضع "الهولوكوست" مع "عملية حماس" في جملة واحدة مرارًا خلال معالجاتها التحليلية عبر برامجها ومنصّاتها، بل إنه جزء من محاولة استدرار عطف وتأييد الدول الغربية والإعلام الغربي لرد الفعل الإجرامي غير المسبوق ضد قطاع غزّة، الأبشع من أيّ محرقة، بحجج واهية، تكاد تكون طفولية من فرط ترديها.

لكن الحقيقة أنّ هذه المحاولة ليست بائسة تمامًا، فقد بدأت تؤتي ثمارها على دوائر أمريكية وأوروبية عدة، ما زالت تروّج لأكاذيب إسرائيل بأنّ حربها على غزة هي مجرّد رد فعل ضد "الإرهاب والكراهية"، وأنّ 13 ألفًا من الشهداء وتدمير شمال غزّة تمامًا وإعادة القطاع ثلاثين عامًا إلى الخلف، هو محض ضرر جانبي للحرب على "دواعش" حماس، لكن حائط الصد الأول لهذه المحاولة كان الوعي الجماهيري المتصاعد في العواصم الغربية والعربية والمدعّم بتوثيق الفيديو والصورة والكلمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إحياء عقدة الذنب الغربية

ويقوم الترويج الصهيوني في رسائل السياسيين والعسكريين والمنصات الإعلامية على أربعة عناصر أساسية برزت في خطابهم المواكب للحرب الحالية منذ استفاقة حكومة بنيامين نتنياهو من هول صدمة هجوم المقاومة المفاجئ والتاريخي على مستوطنات غلاف غزّة:

العنصر الأول؛ هو فصل "طوفان الأقصى" عن سياقه التاريخي الشامل الذي يتضمّن القضية الفلسطينية بتفاصيلها كافة، والخلفية القريبة للحدث التي لا يمكن للباحث الموضوعي التغاضي عنها، لكن إسرائيل وحلفاءها في واشنطن والعواصم الأوروبية يعمدون إلى التعتيم عليها، بما تشمله من تكرار اقتحام المتطرّفين الصهاينة المسجد الأقصى تحت حماية الشرطة الإسرائيلية - حتى مطلع الشهر الماضي - وقتل العشرات من الفلسطينيين العام الحالي فقط، سواءً بقصف غزّة عدة مرات - أبرزها في مايو/أيار بدعوى ملاحقة قيادات "حماس" و"الجهاد"، أو بالاعتداءات المستمرّة على مدن ومخيمات الضفة الغربية وبالأخص جنين، حيث لم تنقطع الاعتداءات الإسرائيلية منذ اقتحامه في مايو/أيار 2022 في الأحداث التي أسفرت عن استشهاد مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة.

ويهدف فصل "طوفان الأقصى" عن سياقه إلى التلاعب بعقول مئات الملايين من البسطاء في الغرب، لتسهيل المقاربة بين عملية المقاومة وبين الهولوكوست وربطهما فكريًا بادعاءات "معاداة السامية"، لا سيما وأنّ سياسيين، مثل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والمستشار الألماني أولاف شولتز، يساهمون في تكريس هذه المقاربة لإحياء عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود، واستنفار الشارع ضد الشعب الفلسطيني.

الحرب في الغرب لا تقل أهمية

ويؤدي هذا الهدف مباشرةً إلى العنصر الثاني في الخطاب الصهيوني: الادعاء بـ"انتقال عدوى الكراهية من فلسطين إلى الشارع الغربي". انعكس ذلك على وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ بدء المجازر الجنونية في غزّة، في صورة هجوم استباقي حاولت به تخفيف حملات النقد العنيفة على خلفيات إنسانية ثم سياسية، والتي بدأت تنتشر في وسائل الإعلام الغربية، بعدما كان الصوت السائد خلال الأسبوع الأول من الحرب غارقًا في بكائيات إسرائيل.

واعتمد الخطاب الصهيوني في ذلك على وسائل عدة، بدأت بالبرامج والموضوعات عبر المواقع والإذاعات، وأهمّها راديو الجيش الإسرائيلي الذي أفرد مساحات مطوّلة لما وصفه بـ"شكاوى المواطنين اليهود من سوء المعاملة في الشوارع والمناطق السكنية والمدارس من قبل المنحدرين من أصول عربية وإسلامية في الدول الأوروبية" حتى بلغ الأمر نشر قصص لا يمكن التأكّد من صحّتها عن تورّط مواطنين أيضًا في تلك التصرّفات "المعادية للسامية".

والهدف من تكثيف الضرب على هذا الوتر مفهوم لابتزاز الدول الغربية والولايات الأمريكية واستنفار السياسيين والأمن لحماية اليهود من جانب، وتصوير المشهدية وكأنها موجة عداء للسامية في طور الانتشار، مما انعكس بالفعل فرضًا للقيود على التظاهر تضامنًا مع غزّة في بعض الدول قبل أن تعود لتفقد سيطرتها بقوّة الأمر الواقع وإصرار المواطنين والجاليات على انتزاع حقوقهم الدستورية في التعبير، كما حدث في بريطانيا وألمانيا وفرنسا ونيويورك.

ولأنّ خديعة "العدوى" لم تفلح على ما يبدو، اضطرّ نتنياهو للدخول على الخط بنفسه، بالتحريض المباشر على الجاليات العربية والإسلامية في فرنسا واتهامها بأنها السبب في "توصيل معلومات خاطئة وغير أخلاقية عما يحدث" في معرض نقده لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي انتقد فيها استهداف إسرائيل للمستشفيات.

وبلغ العبث الصهيوني في هذا الإطار ذروته خلال لقاء الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوج مع "بي بي سي" الأسبوع الماضي وتقديمه نسخة عربية من كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر والزعم بأنّ "إرهابيي حماس" يعلّمونه للأطفال، في محاولة بائسة لربط الهولوكوست بشعب صامد يقاوم الصهيونية من قبل أن يظهر هتلر، بل وعارض التسهيلات الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية لسفر يهود وسط أوروبا إلى فلسطين في المرحلة الأولى من الخطة النازية لإبعادهم.

تبرهن مشاركة نتنياهو وهرتسوج في هذا التدليس على الأهمية والمنهجية. فالحركة الصهيونية تعي جيدًا قدر استفادتها السياسية والمالية والعسكرية من الترويج للهولوكوست والتخويف من "معاداة السامية" على مدار 70 عامًا، وبالتالي تنذر المظاهرات المستمرّة تضامنًا مع غزّة والقضية الفلسطينية بإمكانية تغيّر المزاج العام للشارع الغربي والتجرؤ على نقد إسرائيل واتهامها بالإجرام وقتل الأطفال دون خوف من فزاعة "معاداة السامية"، وهو ما قد يؤثّر على نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في الدول الكبرى الداعمة لها، ومن ثم تغيير مواقف السلطات التشريعية والتنفيذية منها.

"الكذبة الكبيرة" تجعل الناس يصدّقون

أما العنصر الثالث الذي يجعل الخطاب الصهيوني ممنهجًا من زعماء الكيان وحتى أصغر النشطاء على مواقع التواصل، مرورًا بالمنصات الإعلامية والمتحدثين الرسميين، فهو "المبالغة"، ولا عجب، فقد كان العنصر الجوهري لسرديات المحرقة وتصنيفات العداء للسامية والمحاكمات المشهدية التي أقيمت في الكيان لضباط ومجنّدين وحرّاس اتُهموا بالمسؤولية عن قتل اليهود.

ولقد نفت الأبحاث الحديثة تمامًا أكاذيب واسعة انتشرت عن الهولوكوست وما زالت ذائعة في المجتمعات الغربية، مثل "تعميم" استخدام الغاز كوسيلة لحرق المعتقلين أحياء (وهي الأكذوبة التي استقت منها السياسة النازية وصف "هولوكوست" بمعنى الإحراق باللاتينية) ورواية صناعة زيوت وصابون من أشلاء المعتقلين بعد تذويبها، وأكذوبة أنّ المعسكرات كانت مخصّصة حصرًا لليهود بعد توثيق وجود أغلبية من الغجر والشيوعيين في بعضها، فضلًا عن المبالغة في حساب أعداد الضحايا وتوثيق أسماء القتلى قبل أن يظهروا مجددًا أحياء وقد تمكّنوا من الهرب.

شنّت الحركة الصهيونية حملتها لتهويل آثار الهولوكوست وإرهاب خصومها بتهمة العداء للسامية بتقنية "الكذبة الكبرى" أو “große Lüge“ كما شخّصها هتلر في "كفاحي" عندما كان يصف حملة اليهود على القائد الألماني إيريش لودندورف في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم استخدمها هتلر نفسه ووزير دعايته جوزيف غوبلز ضد اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية تمهيدًا لقطع دابرهم من "الرايخ الثالث".

نسب اليهود إلى غوبلز وهم يُأصّلون للهولوكوست بعد هزيمة ألمانيا مقولة "إذا قلت كذبة كبيرة بما يكفي وواصلت تكرارها فسوف يصدّقها الناس في النهاية" لكن الحقيقة أنّ غوبلز لم يقل هذه العبارة قط ولم تؤثر عنه مكتوبة أو منطوقة، بل كانت هي ذاتها جزءًا من "كذبة كبيرة" أخرى للحركة الصهيونية.

بالأدلة، نفى كثير من الباحثين والمؤرّخين المنتمين لليمين الأمريكي والأوروبي وقائع كاملة من السرديات الصهيونية، فضلًا عن التشكيك في الأعداد الهائلة. ومع انتعاش الحركة الثقافية والفكرية اليسارية في إسرائيل ذاتها برزت أصوات عدة تحاول "عقلنة" روايات الهولوكوست، كان أحدها المؤرّخ والمفكّر الراحل الحائز على جائزة إسرائيل (أهم جائزة فكرية في الكيان) زيف شتيرنهيل، الذي قال مرارًا في حوارات بين عامي 2015 و2019 لصحيفة "هآرتس" إنّ إسرائيل استغلّت الهولوكوست بشكل هائل، وأنه لولا الحرب العالمية الثانية وتطوّراتها العسكرية لكانت المسألة اليهودية قد انتهت بالهجرة الطوعية لليهود من أوروبا إلى الشرق الأوسط وأمريكا، وأنّ الهولوكوست لا تنفي حقيقة أنّ معظم اليهود المستهدفين قد هاجروا فعلًا بنجاح.

التحريض للتغطية على الأكاذيب

يغطي اليهود على المبالغات بالعنصر الرابع في الخطاب ألا وهو "التحريض"، من خلال الاستثمار في السياسيين ليستصدروا تشريعات وإجراءات قضائية ضدّ منكري المحرقة والمتَّهمين بمعاداة السامية، تكرّرت في أوروبا وأمريكا، وتسعى إسرائيل إلى استنساخها اليوم.

فمقابل المبالغة المستمرّة في ذكر روايات عن مآسي ضحايا "طوفان الأقصى" وإصابة الملايين "بالهلع" جراء طائرات الحوثي المسيّرة ومدافع الهاون، تظهر مقترحات في أمريكا وأوروبا لتجريم حمل العلم الفلسطيني وحظر أي أنشطة تتعاطف مع المقاومة، بالتوازي مع إصدار قرارات تقييدية جديدة للمساعدات الموجّهة إلى غزّة واستثمارات الفلسطينيين بدعوى استخدامها في تسليح "حماس".

ولا يرتبط التحريض الصهيوني من منطلقات فاشية بمناسبة معيّنة، بل تُرك عقودًا ينمو حتى اتخذ شكله الحالي، رغم تحذيرات العديد من السياسيين والمفكّرين داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. وما زلنا مع شتيرنهيل الذي قال عام 2016 في حوار مع "المونيتور" إنّ "إسرائيل قريبة بشكل خطير من الخط الأحمر للفاشية وأنها تعاني من تآكل مريع في القيم الليبرالية بما يشكل خطرًا على الأمّة والوطن والدولة اليهودية". ورأى المؤرخ - الذي كان ضحية للفاشية الأوروبية وحارب ضد العرب من 1956 إلى منتصف الثمانينيات - أنّ الفاشية والنازية لم تُدفنا للأبد بمصرع موسوليني وهتلر، بل توقّع عودتهما إلى إسرائيل "لدهسها المستمر للحقوق الفلسطينية ووضع الجيش تحت تصرّف المستوطنين".

لم يمهل القدر شتيرنهيل ليرى التطورات الحالية، لكنّ سياسيًا معارضًا حاليًا لنتنياهو هو نائب رئيس أركان الجيش الأسبق يائير جولان قال عام 2016 وهو يرتدي الزيّ العسكري في ذكرى الهولوكوست: "يجب أن نتدبّر ونحن نرى في مجتمعنا ممارسات كالتي عانى منها اليهود على أيدي النازيين"، داعيًا إلى "مراجعة السياسات التي تقوم على مجرد كراهية الآخر وإثارة الرعب والسلوك الهمجي".

المثير أنّ قلّة من السياسيين في إسرائيل ساندوا جولان عندما تعرّض لهجوم عنيف من حكومة نتنياهو آنذاك، كان منهم الرئيس الحالي هرتسوج الذي وصفه بـ"القائد الشجاع الذي يعرف معنى الأخلاق والمسؤولية".. فهل كانت ثمة أخلاق في مشهد إمساك هرتسوج نفسه بكتاب "كفاحي"؟!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن