عندما نقول إنّ الولايات المتحدة وإدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن شريكة في الحرب الحالية وما يجري من جرائم حرب وإبادة، فلا يوجد دليل أكثر وضوحًا من الموقف الأمريكي المتصلّب داخل مجلس الأمن ومنعه من أداء دوره في حماية السلم والأمن الدوليين والتطبيق النزيه لقواعد القانون الدولي.
فلم يكتفِ بايدن بتعزيز الروايات الصهيونية الكاذبة بشأن قطع رؤوس الأطفال واستخدام قيادة "حماس" للمستشفيات كمقرات للقيادة، ولكنه تعمّد أيضًا منح العدو رخصة باستمرار القتل عن طريق تعطيل صدور قرار من مجلس الأمن يدعو لوقف فوري لإطلاق النار ولآلة القتل المجنونة على مدار الساعة التي يتعرّض لها الأطفال والنساء والمدنيون الفلسطينيون.
المفاوضات التي شهدتها الغرف المغلقة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بين أعضاء المجلس الخمسة عشر، وفي مقدمتهم الخمسة الدائمون أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين الذين يتمتعون بحق النقض "فيتو"، لا يمكن أن تُحرز تقدمًا من دون التعليمات التي تصل إليهم من عواصمهم، وبعدها تكون مهمة الدبلوماسيين العثور على الصياغات والكلمات المناسبة التي ستجعل من الممكن تمرير القرار بطريقة لن تكون مرضية لكل الأطراف، ولكنها في النهاية مقبولة حيث تتضمّن بعض المواقف الأساسية التي تتمسّك بها الأطراف المعنية.
في عدوان 2008 على القطاع الذي أسماه العدو "الرصاص المصبوب"، كان وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن هم من يتفاوضون بشكل مباشر على بنود القرار الذي طالب بوقف إطلاق النار على مدى ثلاثة أسابيع، وليس المندوبون الدائمون، مما يعني درجة اهتمام أكبر بسرعة الوصول إلى قرار. وكانت الأجواء شبيهة تمامًا بما يجري الآن في 2023 من ناحية تمسّك واشنطن برفض صدور أي قرار يطالب العدو بوقف القتل حتى ينتهي جيش الاحتلال من تحقيق بعض أهدافه، مقابل مطالبة المجتمع الدولي بأكمله للولايات المتحدة بضرورة مطالبة حليفتها بوقف ما ترتكبه من مجازر بحق الشعب الفلسطيني. وفي النهاية صدر القرار رقم 1860 بموافقة أربع عشرة دولة وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، مما سبّب حرجًا بالغًا لوزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، كوندليزا رايس، التي كانت قد أكدت لنظرائها أنّ بلادها ستصوّت لصالح القرار. ولكن الرئيس جورج دبليو بوش خضع لضغوط الحكومة الصهيونية التي كان يترأسها أيهود باراك في ذلك الوقت، وطلب من رايس الاكتفاء بالامتناع عن التصويت بدلًا من أن يصدر القرار بالإجماع من مجلس الأمن.
تتفق واشنطن مع حكومة مجرمي الحرب في الكيان الصهيوني على أنّ أيّ وقف لإطلاق النار سيمثّل انتصارًا لـ"حماس"
في القرار الأخير الذي حمل رقم 2712، ولنا نحن العرب صولات وجولات مع أرقام قرارات مجلس الأمن التي نحفظها عن ظهر قلب كما هو الحال مع قرارت 194 و242 و338 و1701، صوّت لصالحه 12 عضوًا مقابل امتناع ثلاث دول عن التصويت هي الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. وبينما ليس من المعتاد أن تقف الولايات المتحدة وروسيا في جانب واحد عادة، على عكس الحال مع بريطانيا التابع الأمين لواشنطن، فإنّ كلا البلدين قرّرا الامتناع لأسباب مختلفة تمامًا. فواشنطن امتنعت لأنّ القرار لم يتضمّن إدانة واضحة وصريحة لتنظيم "حماس"، بينما برّرت موسكو موقفها بعدم مطالبة القرار بوقف فوري لإطلاق النار والاكتفاء فقط بالدعوة لـ"هدن إنسانية." ورفضت الولايات المتحدة اقتراحًا روسيًا في اللحظة الأخيرة يدعو إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة تؤدي إلى وقف الأعمال العدائية".
أما واشنطن فلم تكن لتوافق حتى على الامتناع عن التصويت لو لم يتضمّن القرار مطالبة غير مشروطة لحركة حماس بـ"الإفراج الفوري وبدون شروط" عن كل الأسرى الذين احتجزتهم عدة فصائل فلسطينية في هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكذلك التمسّك بعدم تبني أي لغة تمثّل إدانة لتصرفات جيش الاحتلال الصهيوني التي يكاد يكون هناك إجماع بين كل الخبراء في القانون الدولي أنها تمثّل انتهاكات فاضحة لكل القوانين الإنسانية وقوانين الحرب من قبيل مهاجمة المستشفيات وقصف المدارس التابعة للأمم المتحدة التي تأوي النازحين، أو الإشارة لمطلب "حماس" بالإفراج عن كل السجناء الفلسطينيين المحتجزين لدى الاحتلال.
بالطبع لم تكن الولايات المتحدة لتوافق على صدور القرار الأخير لو لم تكن المفاوضات قد بدأت بالفعل بشأن التوصّل لما تسميه بـ"هدنة" أو "وقفة" إنسانية، ترتبط بملف الإفراج عن الأسرى الذين تحتجزهم "حماس" بوساطة قطرية.
وتتفق واشنطن مع حكومة مجرمي الحرب في الكيان الصهيوني على أنّ أيّ وقف لإطلاق النار من دون تحقيق جيش الاحتلال لأهدافه المتمثّلة في القضاء على "حماس" وتحرير الأسرى سيمثّل انتصارًا لتنظيم "حماس"، واعتبار الحرب الحالية جولة جديدة من جولات الحروب بين الطرفين كما هو الحال منذ سيطرة "حماس" على غزّة في 2007.
وما يزال رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو يتحدث عن أنه لن يسمح للوضع الذي كان قائمًا في 7 أكتوبر/تشرين الأول بالاستمرار، وأنه لا بد من أن تتولى سلطة جديدة إدارة القطاع، بعدما ينفذ مهمّته بالقضاء على "حماس".
قرار مجلس الأمن الأخير هو بداية هزيمة الحكومة المتطرّفة الحالية التي بدأت الضغوط الداخلية عليها تتصاعد
وحتى ذلك الحين، تعهّد بأن يتولى جيش الاحتلال الإدارة المباشرة للأوضاع الأمنية في غزّة، وهو ما يعني عمليًا إعادة احتلال القطاع حتى لو لم يعلن ذلك رسميًا. ورغم أنّ إدارة بايدن أعلنت مرارًا أنها لا تنصح الكيان الصهيوني بإعادة احتلال القطاع، فإنها لن تستطيع منع حليفتها من القيام بذلك، بينما الرئيس الحالي مقبل خلال شهور على خوض انتخابات رئاسية صعبة أمام خصمه اللدود دونالد ترامب الذي يتهم الإدارة الحالية بالتخاذل في دعم الكيان الصهيوني.
القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن يخلو من أي إجراءات عملية تضمن تنفيذه، ولا يتضمّن لهجة تلزم العدو الصهيوني بقبول الهدنة أو تحديد أطراف محايدة تراقب تنفيذها والعواقب المترتبة على الطرف الذي يرفض الالتزام بها. لكن أهميته تكمن في أنه خطوة أولى نحو الوصول لقرار أممي يدعو لوقف إطلاق النار، ربما ليس قريبًا جدًا بسبب الموقف الأمريكي، ولكنه يمثّل انعكاسًا لتزايد المعارضة الدولية لما يقوم به جيش الاحتلال من جرائم فاضحة بحق المدنيين الفلسطينيين وإدراك أنّ أصل المشكلة هو استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية.
العدو الصهيوني لن يستطيع الوقوف في وجه العالم بأكمله حتى لو قامت الولايات المتحدة بحمايته في مجلس الأمن، وقرار المجلس الأخير، وقبله قرار الجمعية العامة الصادر بأغلبية 120 دولة ويطالب بوقف إطلاق النار، هو بداية هزيمة الحكومة المتطرّفة الحالية التي بدأت الضغوط الداخلية عليها تتصاعد، بعدما توالت احتجاجات ومظاهرات أهالي الأسرى المطالبة بالقبول ليس فقط بهدنة بل بوقف الحرب في سبيل عودة أولادهم.
(خاص "عروبة 22")