ولئن أثارت الصور الدامية لحجم الكارثة الإنسانية التي حلّت بقطاع غزّة، مشاعر قطاع واسع من الشعوب العربية سواء عبر مسيرات الشوارع أو تدوينات منصّات التواصل الاجتماعي، خاصّة أنّه لم يسلم منها لا العمران ولا البشر ولا حتّى الأطفال الرضّع الذين وصلهم جنون القصف الإسرائيلي في غرف الحضانة والإنعاش بالمستشفيات، فإنّ ذلك التفاعل لم يكن مؤثّرًا، ولم يرتقِ إلى مستوى مستجدّات اللحظة الراهنة.
وقد ثبت مرّة أخرى اتّساع القصور والعجز العربي في كيفية التعامل مع الأوضاع الراهنة، إذ تحوّل ذلك التعاطف أحيانًا إلى مراسم احتفالية تُلقى فيها الخطب العصماء والقصائد المنمّقة مع لبس للكوفية الفلسطينية، أو إلى تفتيش للنوايا قصد التمييز بين مَن مع المقاومة أو ضدّها، بل تحوّل ذلك التفاعل في عديد المواضع إلى فرز على أساس الانتماء الأيديولوجي أو السياسي أو المذهبي.
الوهن العربي هو حصاد توجّهات فاشلة لم تتم الاستفادة من تجاربها التاريخية لتصحيح الأخطاء والبناء للمستقبل
والحال أنّه كان من المفروض مصارحة النفس وتحديد أسباب الذلّ والهوان العربي مع المسارعة بانتهاج خطوات عملية لتدارك ما يمكن تداركه على الأمدين القريب والمتوسّط، ثم رسم استراتيجيات عمل على المدى البعيد تحدّد علاقات العالم العربي الداخلية والخارجية لا سيما مع القوى الدولية على أساس المصالح المتبادلة. وهو ما يجعل من أية عملية سلام مستقبلًا أكثر جدّية وعقلانية وقابلية للتحقّق.
الوهن الذي يمرّ به العالم العربي حاليًا ليس قدرًا إلهيًا لا يمكن الفكاك منه، وإنّما هو حصاد خيارات وتوجّهات فاشلة لم تتم الاستفادة من تجاربها التاريخية لتصحيح الأخطاء والبناء للمستقبل، وعلى النقيض من ذلك، تمّ تعميق الشروخ وتنمية العجز العربي.
لئن بدت إسرائيل والقوى الدولية، في مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكية، بمظهر القوى المهيمنة التي لا يثنيها رادع في تأديب المارقين عليها، مستغلّة ضبابية مفهوم الإرهاب لتوظيفه في تبرير حربها، فإنّها قد أثبتت مرّة أخرى تكلّس الفكر السياسي الغربي وعدم قدرته على التحرّر من أداتيّته المفرطة وتحيّزاته الضيّقة. وليس من المبالغة الإشارة إلى وجود تراجع بيّن عن مكتسبات حقوق الإنسان وقيم الحداثة نفسها التي تجعل من الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، إذ ما تزال تعشش في الذهنية الغربية الخلفية الدينية - المسيحية إلى اليوم التي تطابق بين التاريخ والوحي والعقيدة رغم الشعارات الإنسانية والكونية البرّاقة التي يروّجها الخطاب الغربي في خصوص مبادرة "حماس" بالهجوم على إسرائيل واختطاف المدنيين.
وإذا كان ظاهر هذا الحديث يشي بجريمة إنسانية في حقّ مدنيين عزّل، فإنّ الإلمام بخلفيات واقعة الأسر أو الاختطاف وعدم فصلها عن واقع الاحتلال ومختلف أشكال الإذلال والإهانة التي يتعرّض إليها الفلسطينيون يوميًا يكشف الخلط المتعمّد بين مفهومي المقاومة والإرهاب.
لعلّ من أبرز المؤشّرات الدالة على ذلك التراجع في منسوب القيم الإنسانية الغربية، الموقف التجزيئي السائد اليوم الذي عبّر عنه بيان عدد من الفلاسفة البارزين، في مقدّمتهم هابرماس بخصوص التنديد بالعنف الفلسطيني تجاه الإسرائيليين وتوجيه نظر المسلمين المقيمين بالغرب إلى عدم استغلال حرية التعبير والمنظومة الحقوقية الغربية لمعاداة السامية، وهذا موقف صدم قطاعًا واسعًا من النخبة العربية المتأثّرة بنظرية هابرماس التواصلية ومراجعاته للحداثة الغربية ضمن مدرسة فرانكفورت النقدية، لأنّه بدا موقفًا تجزيئيًا يتنافى كليًا مع طبيعة المقاربات النقدية والفلسفية خصوصًا، بحكم أنّه لا ينظر إلى أحداث غزّة إلّا من الزاوية التي تناسبه والمتّصلة بالالتزام الأبدي بحماية إسرائيل تكفيرًا عن عقدة الشعور بالذنب المتمثّلة في الهولوكوست المحرقة. وتمّ صرف النظّر كلّيا عن المحرقة وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون بغزّة راهنًا لتهجيرهم وإحداث اختلالات ديمغرافية وعمرانية لها علاقة ما بمفهوم السلام الخاص لدى إسرائيل.
الولايات المتّحدة بدعمها اللامحدود للقوة الغاشمة في غزّة ستسهم في انحصار الفكر التنويري وتناسل الحركات المتشدّدة
وبقدر ما بدت الولايات المتّحدة الأمريكية في هذا الصدد وفية لعقيدتها السياسية والعسكرية المتمثّلة في سرعة تعويضها لخيباتها ونكساتها في أوّل فرصة ممكنة، فإنّها بعد فشلها وفشل الحلف الأطلسي في تحقيق تقدّم حاسم خلال الحرب الروسية الأوكرانية سرعان ما وجدت ضالتها في حرب غزّة. لذا أكّدت دعمها المطلق لإسرائيل ماديًا وعسكريًا، فأمدّتها بأحدث الأسلحة والعتاد الحربي فضلًا عن الدعم اللوجستي دون أدنى اعتبار لدماء الأبرياء العزّل، بمن فيهم الأسرى المدنيون الإسرائيليون الذين انقطعت بهم السبل في غزّة المحاصرة من كلّ الجهات.
يبدو انطلاقًا من ذلك أنّ العرب ليسوا وحدهم من لا يستفيدون من أخطائهم، إذ أثبتت أحداث غزّة عدم استفادة السياسات الغربية والأمريكية تحديدًا من تجاربها الخاطئة بأفغانستان والعراق في ما يخّص اعتماد القوة الصلبة بشكل استعراضي وهمجي، حيث على الرغم مما أفضت إليه تلك الحرب على الإرهاب المزعومة من "تفريخ" مزيد من الإرهاب وانتشاره بظهور حركات أكثر عنفًا ودمويةً وتشدّدًا مثلما حصل بالعراق ضمن ما يُعرف بتنظيم "داعش"، فإنّ الولايات المتّحدة بدعمها اللامحدود للقوة الغاشمة في أحداث غزّة الأخيرة ستسهم في انحصار الفكر التنويري الذي يسعى إلى خلق حداثة نوعية حقيقية بالعالم العربي. وهو ما قد يفسح المجال لتناسل الحركات المتشدّدة الراديكالية والعدمية.
وما دامت خيبة الأمل في تكريس سلام حقيقي يضمن للفلسطينيين حقوقهم المسلوبة ويُعيد لهم أرضهم المسلوبة ويحفظ كرامتهم المهدورة مثلما تنصّ على ذلك كلّ مواثيق حقوق الإنسان والأمم المتّحدة، فإنّ البديل لخيبة الأمل الكبيرة واليأس والعجز لن يكون إلّا حلولًا عدميةً لن يقتصر تأثيرها على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقط، وإنّما ستمتد كذلك إلى الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما.
بيد أنّ كلّ ذلك يجب ألّا يفضي في العالم العربي إلى الخلط بين الغرب الاستعماري/الإمبريالي والغرب "التنويري" الذي مكّنته ثوراته الفكرية والعلمية والتقنية الملاحقة البشرية من تحقيق مكاسب وتحوّلات كبرى غيّرت مسار التاريخ، ويسّرت للإنسان استئناف مسيرة التقدّم بعد قرون من الركود والجمود رغم الكوارث التي تحدث من حين لآخر جرّاء التطبيق السيء للتقنية.
لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني والبيت العربي.. ومراجعة الخيارات السابقة في ما يخصّ مفهوم السلام وآليات تحقيقه
ولعلّ المظاهرات الحاشدة التي جابت عديد المدن والعواصم الغربية المندّدة بالعدوان الإسرائيلي على غزّة من مؤشّرات استمرارية المشترك القيمي الإنساني التي يمكن البناء عليها في التمييز بين وجوه الغرب المتعدّدة. لذا قد يكون الارتداد عن مكتسبات النهضة الغربية إلى مقولات قروسطية قائمة على التضاد والتقابل بين دار الإسلام ودار الكفر بمثابة الانتحار التاريخي، لأنّ ذلك من أخطر الارتدادات التي قد تفضي إلى العدمية والخروج النهائي من التاريخ.
يمكن الاستفادة عربيًا من أحداث غزّة رغم طابعها المأساوي في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني أوّلًا ثم البيت العربي ثانيًا، ومن الواضح أنّ رؤية عديد القيادات قد تجاوزتها الأحداث، فضلًا عن ضرورة مراجعة الخيارات السابقة في ما يخصّ مفهوم السلام وآليات تحقيقه.
لقد كانت الخيارات السابقة خاطئة وحوّلت عملية السلام إلى سوق شرق أوسطي خاضع للمزاد العلني على حدّ تعبير محمد حسنين هيكل، وهو ما يدعو إلى صياغة مشاريع حضارية حقيقية واستراتيجيات عمل على الأمدين القريب والبعيد، وهذا هو السبيل الوحيد لمباشرة عملية تصحيح ذاتي عميقة الجذور وإقامة علاقات صلبة مع القوى الدولية قائمة على أساس تبادل المصالح والمنافع بين العرب والغرب.
(خاص "عروبة 22")