تقدير موقف

هل توقف الأزمة الاقتصادية آلة الحرب الصهيونية أم تزيد سعارها؟

تتسارع مؤشرات الأزمة الاقتصادية في الكيان الصهيوني وتتجسّد بشكل واضح في ركود زاحف في الإنتاج والصادرات، وبطالة متزايدة رغم سحب مئات الآلاف من العاملين إلى ساحات العدوان، وشلل في القطاع السياحي وبعض الصناعات عالية التقنية. وبات التساؤل منطقيًا حول تأثير هذه الأزمة ومتطلّبات معالجتها، على توقّف أو استمرار الكيان الصهيوني في عدوانه الإجرامي على الشعب الفلسطيني في أراضيه المحتلة.

هل توقف الأزمة الاقتصادية آلة الحرب الصهيونية أم تزيد سعارها؟

من الصعب الإجابة على هذا التساؤل وفقًا للمنطق والحالات المناظرة في بلدان أخرى لأنّ الكيان الصهيوني ببساطة ليس بلدًا طبيعيًا، بل هو عبارة عن مؤسسة عسكرية في صورة كيان تم صنعه في القرن العشرين ويلتزم صانعوه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، المستفيدون من وجوده واستمراره كحل للأزمة اليهودية في الغرب وكرأس حربة غربية مغروسة في قلب الوطن العربي، بمعالجة مشاكله الاقتصادية.

والأكثر واقعية في هذه الحالة هو القياس على الأزمات الاقتصادية السابقة التي تعرّض لها هذا الكيان، سواءً في أوقات الحرب أو السلم، والكيفية التي تمّت معالجتها من خلالها.

خسائر اقتصادية كبيرة على كل الأصعدة

تشير البيانات الرسمية إلى أنّ قيمة الناتج المحلي الإجمالي للكيان الصهيوني بلغت 522 مليار دولار عام 2022، وبلغ عدد المشتغلين 4,187 مليون مشتغل. وهذا يعني أنّ متوسّط إنتاجية العامل بلغ 124672 دولارًا في العام. وبالتالي فإنّ سحب نحو 360 ألفًا من هؤلاء المشتغلين من مواقع العمل إلى ساحات العدوان يعني خسارة إنتاج هذا العدد من العاملين وقيمته 3,74 مليار دولار شهريًا. ونظرًا لأنّ الأشغال التي يقومون بها لا تتوقف تمامًا وكليًا حيث يتم القيام بجزء منها من خلال تكثيف العمل على العمالة الباقية، فإنّ الخسارة تكون أقل من ذلك، لكنها لن تقل بأي حال من الأحوال عن 3 مليارات دولار شهريًا.

الخسارة الاقتصادية الإسرائيلية خلال الربع الأخير من عام 2023 ستكون في حدود 8,6 مليار دولار

وعلى صعيد متصل ارتفع عدد العاطلين من 165,4 ألف عاطل عندما كان معدّل البطالة 3,8% من قوة العمل حتى سبتمبر 2023، إلى نحو 428 ألف عاطل. وبلغ معدل البطالة 10% من قوة العمل بعد شهر من الحرب الراهنة بكل تأثيراته الاجتماعية والاقتصادية السلبية.

وتشير التقديرات الرسمية إلى أنّ معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي للكيان الصهيوني سيقتصر على 1,5% فقط، بعد أن كانت تلك التقديرات قبل الحرب تشير إلى أنه سيبلغ 3,1% عام 2023. أي أنّ الخسارة الاقتصادية خلال الربع الأخير من عام 2023 ستكون في حدود 8,6 مليار دولار وفقًا لتلك التقديرات. وتلك الخسارة تؤدي بصورة فورية إلى تراجع مناظر في قدرة الاقتصاد على التصدير.

أما الاستثمارات الجديدة فمن المؤكد أنها أصيبت بالشلل المؤقت طوال فترة العدوان على غزّة المستمر حتى الآن، حيث يعتبر الأمن عاملًا حاسمًا في تدفّق تلك الاستثمارات. وقد بلغ معدل الاستثمار في الكيان الصهيوني نحو 26,3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022. كما استقبل ذلك الكيان استثمارات أجنبية بلغت قيمتها نحو 27,8 مليار دولار في العام نفسه وفقًا لتقرير الاستثمار العالمي. ومن المؤكد أن ينخفض كليهما بسبب الحرب والاضطراب الأمني الناتج عنها.

وإضافة لكل ما سبق، فإنّ الدمار الذي أصاب القواعد العسكرية والمستدمرات الصهيونية والبنية الأساسية والعقارية يشكّل خسارة اقتصادية جسيمة أيضًا. فما هي السوابق المناظرة وكيف عالجها الكيان الصهيوني وهل أثّرت على قراراته العسكرية؟

المساعدات الخارجية.. نهر الحياة في أوقات الأزمات

تعرّض الكيان الصهيوني في السابق لأزمات اقتصادية ارتبطت بالحروب وبموجات الهجرة الكبرى وبالاختناقات الاقتصادية نتيجة سوء الأداء والسياسات. لكن تلك الأزمات لم تؤثّر يومًا على القرارات العسكرية لذلك الكيان، بل كانت تزيد سعاره العسكري على الأرجح. وتكفّلت المساعدات الخارجية، وبخاصة الأمريكية، بمعالجة أزماته الاقتصادية دون أن يضطر لإيقاف حرب أو النكوص عن أي عدوان يخطط له.

وعلى سبيل المثال، فإنه بعد حرب الاغتصاب عام 1948، كانت الحاجة ماسة لتمويل وضع قواعد الكيان الصهيوني. وعلى الفور قدّمت له الولايات المتحدة الأمريكية قرضًا قيمته 135 مليون دولار عام 1949 (تم اعتباره منحة بعد ذلك). وخلال الفترة من 1949-1953 بلغت قيمة المساعدات الأمريكية الرسمية للكيان الصهيوني 70 مليون دولار سنويًا، إضافة إلى أغذية توازي قيمتها 20 مليون دولار في العام. لكن المساعدات العينية والمالية الأضخم أتت من ألمانيا الغربية آنذاك، حيث عقدت حكومة ألمانيا الغربية معاهدة بروكسل مع الكيان الصهيوني في 10 سبتمبر من عام 1952. وتعهّدت فيها بدفع 3450 مليون مارك للكيان الصهيوني بالأسعار الثابتة لعام 1953.

وتكفّلت التدفقات المالية الألمانية بتمويل تكاليف توطين نصف مليون يهودي هاجروا للكيان الصهيوني. كذلك نصّ الاتفاق على تقديم ألمانيا الغربية 60 قطعة بحرية للأسطول التجاري للكيان الصهيوني. كما قدّمت مساعدات في مشروعات الري وخطوط المياه وإقامة الطرق وشبكات الاتصالات والبنية الأساسية، هذا فضلًا عن التعويضات الفردية التي ستستمر حتى عام 2030 والتي يتسلّمها الكيان الصهيوني نيابةً عن كل من قُتلوا أو اعتُقلوا أو عُذّبوا في فترة حكم النازي بصورة فعلية أو مفتعلة.

وعندما تفاقمت الأزمة الاقتصادية الصهيونية عام 1966 وتجسّدت في ضعف النمو وارتفاع معدل البطالة وتفاقم العجز في الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري، كان رد الفعل هو تعاظم النزوع العدواني والتحضير للعدوان على مصر وسوريا والأردن عام 1967.

وكانت الولايات المتحدة حاضرة بتمويل عسكري هائل بمقاييس ذلك الزمن، فارتفعت قيمة المساعدات الرسمية التي تقدّمها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني من 71 مليون دولار عام 1965، إلى 126,8 مليون دولار عام 1966.

وكان الجانب الأكبر من المساعدات الأمريكية المقدّمة للكيان الصهيوني عام 1966 موجّهًا لتمويل شراء صفقة أسلحة أمريكية ضخمة شملت 250 دبابة حديثة في وقتها من طراز إم 48 المعدّلة. كما شملت 485 طائرة مقاتلة طراز سكاي هوك، ووسائل اتصالات ومعدات إلكترونية ومدفعية ورشاشات آلية.

وقد جاءت تلك الصفقة فى إطار استعدادات الكيان الصهيوني، ودعم أمريكا له، لشنّ حربه العدوانية ضد مصر وسوريا عام 1967 لتحطيم قوتيهما الاقتصادية والعسكرية، ولضمان استمرار التفوّق العسكري الذي يرتكز عليه الكيان الصهيوني لتعزيز وجوده وخدمة أسياده الأمريكيين ووأد التطلعات الاستقلالية للدول العربية.

وعندما بدا واضحًا أنّ مصر وسوريا لم تستسلما بعد كارثة يونيو 1967 وتستعدان لجولة عسكرية جديدة، قامت الولايات المتحدة بزيادة مساعداتها للكيان الصهيوني، بدايةً من عام 1971 حيث سجّلت تلك المساعدات قفزة هائلة، وارتفعت من 71,1 مليون دولار عام 1970 إلى 600,8 مليون دولار عام 1971. أي أنها زادت بنسبة 745% تقريبًا خلال عام واحد. وكان ذلك الأمر يجسّد تحوّل المساعدات الأمريكية للكيان الصهيوني إلى حالة من الالتزام الكامل بمتطلّباته العسكرية والاقتصادية.

وافق الكونجرس الأمريكي على اعتبار كافة المساعدات الأمريكية المخصّصة للكيان الصهيوني منحًا لا تُرد

وفي عام 1974 قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة استثنائية هائلة بمعايير ذلك الوقت بلغت قيمتها 2570,2 مليون دولار بزيادة نسبتها 450% عن عام 1973. وكانت المنح العسكرية الأمريكية للكيان الصهيوني التي بلغت في ذلك العام 1500 مليون دولار تشكّل الجانب الأكبر من المساعدات الأمريكية له لتعويض خسائره في تلك الحرب والتي بلغت 840 دبابة، ونحو 150 طائرة، إضافةً إلى وقوع 11638 من جنوده بين قتيل وجريح حسب الأرقام التي أعلنها ذلك الكيان.

وفي عام 1979 تلقّى الكيان الصهيوني أضخم مساعدة حكومية أمريكية منذ تأسيسه. وبلغت قيمتها نحو 4815,1 مليون دولار، من بينها منح اقتصادية قيمتها 525 مليون دولار، ومنح عسكرية قيمتها 1300 مليون دولار، وذلك لتمويل عملية إنشاء مطارات ومنشآت عسكرية فى النقب بدلًا من تلك التي أخلاها في سيناء بعد عقد معاهدة 26 مارس 1979 مع نظام السادات بمشاركة ومباركة أمريكية.

وفي أكتوبر عام 1984، تقدّمت حكومة الكيان الصهيوني بمذكرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تطلب فيها الحصول على 4,5 مليار دولار كدعم عاجل تتسلّمه دفعة واحدة فى أكتوبر 1985، بالإضافة إلى 10,5 مليار دولار لتغطية احتياجاتها العسكرية حتى عام 1988، إضافةً للمساعدات السنوية البالغة 3 مليارات دولار.

وبرّرت الحكومة الصهيونية في مذكّرتها تلك المساعدات الهائلة التي طلبتها باحتياجها الماس لسد الفجوة الموجودة في النقد الأجنبي لديها. ووافق الكونجرس الأمريكي بالفعل على اعتبار كافة المساعدات الأمريكية المخصّصة للكيان الصهيوني منحًا لا تُرد.

وبلغت قيمة تلك المنح 2,6 مليار دولار في عام 1985، وكان نصف المنحة الأمريكية للمعدات العسكرية والنصف الآخر أنفقه الكيان الصهيوني بدون قيود. وفي عام 1986 تلقى الكيان الصهيوني المساعدة السنوية الاعتيادية التي يتلقاها من الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت 3 مليارات دولار، إضافةً إلى منحة طارئة بلغت 1500 مليون دولار هبة لا تُرد لتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي لذلك الكيان.

وفي عام 1990 تلقى الكيان الصهيوني من الولايات المتحدة، المنحة المعتادة بقيمة 3 مليارات دولار، إضافة إلى 400 مليون دولار للمساهمة فى استيعاب المهاجرين الذين بلغوا نحو 200 ألف منهم 185 ألف يهودى سوفيتي.

الحروب قد تُعد بالنسبة إلى الكيان الصهيوني استثمارًا جيدًا يحصل بسببها على مساعدات أضعاف خسائره الاقتصادية

وفي عام 1991 طلب الكيان الصهيوني من الحكومة الأمريكية تقديم ضمانات حكومية أمريكية لقروض مصرفية يحصل عليها من البنوك الأمريكية بقيمة 10 مليارات دولار بخلاف المساعدات السنوية البالغة 3 مليارات دولار، وذلك لتمويل استيعاب موجة المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق، وحصل عليها بالفعل ولم يسدّدها واضطرت الحكومة الأمريكية كضامن لها، إلى سدادها.

والخلاصة أنّ الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي يتعرّض لها الكيان الصهيوني بسبب عدوانه على الشعب الفلسطيني، لن تشكّل رادعًا له أو سببًا لإيقاف عدوانه، حيث بادرت الولايات المتحدة التي تقدّم له 3,8 مليار دولار منحًا عسكرية سنوية، بتقديم 14,3 مليار دولار إضافية لدعم ذلك الكيان في عدوانه الإجرامي على غزّة، وهو ما يعادل 1,7 مرّة قدر الخسائر الاقتصادية الصهيونية لذلك العدوان حتى نهاية هذا العام بما ينهي أي احتمال لتأثير الأزمة الاقتصادية على قرار الحرب أو السلم في الكيان الصهيوني، بل إنّ الحروب قد تُعد بالنسبة إليه استثمارًا جيدًا يحصل بسببها على مساعدات أمريكية وصهيونية أضعاف خسائره الاقتصادية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن