حول هذا الموضوع نستدعي نصًا كلاسيكيًا رائدًا شارك في إعداده ثلاثة من الباحثين الإسرائيليين بعنوان: "الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي" The Class Nature of Israeli Society؛ صدر أولًا بدورية اليسار الجديد في عدد يناير - فبراير 1971، وأعيد نشره أكثر من مرّة لاحقًا ككتيّب بحثي.
وترجع أهمية الدراسة أنها فتحت أفقًا منهجيًا ومعرفيًا لدراسات أكثر دقة وتفصيلًا حول المجتمع الإسرائيلي. لذا كان جديرًا بالترجمة على يد أحد الباحثين المصريين هو الأستاذ "تامر موافي" الذي صَدَّرَ ترجمته بمقدمة بحثية مهمّة، ومتمّمة للنص المترجم، ونشرهما - المقدمة والنص المترجم - ضمن إصدارات دار مرايا القاهرية - 2017.
تنطلق الدراسة، كما يلفت نظرنا المترجم، من أنّ المؤلفين/الباحثين يسعون إلى إثبات أنه "ليس بالإمكان فهم المجتمع الإسرائيلي وتخيّله طبقيًا وفق الخطوط العامة التقليدية في المنهج الماركسي، التي تناسب بشكل أكبر المجتمعات الطبقية التقليدية". ويفسّر الباحثون أنّ جوهر الصراع الاجتماعي/الطبقي في إسرائيل لا ينطلق "من كون نمط الإنتاج الرأسمالي هو القلب المنتج لها بشكل مباشر"، إذ "إنّ القلب هو الصهيونية".
بلغة أخرى نحن لسنا أمام مجتمع يخضع لقواعد الاقتصاد الطبيعي إنما نحن أمام اقتصاد استيطاني صهيوني. ويتبع الأخير ديناميات تعطي الأولوية للاعتبارات الاستيطانية على أية اعتبارات أخرى، بمعنى (ونحيل هنا إلى الدكتور عبد الوهاب المسيري في عمله الفذ "موسوعة اليهودية والصهيونية" - جزء 7)؛ أنه "في حالة تعارض مقتضيات الرشد الاقتصادي (القائمة على حساب التكلفة الاقتصادية والمردود الاقتصادي) مع النشاط الاستيطاني فإنّ الأولوية لا تكون للاعتبارات الاقتصادية وإنما لضرورات الاستيطان. وأهم هذه الضرورات الأمن والبقاء المادي. ويرتبط البقاء المادي بالبقاء الإثني". ما يعني أنّ جماعة المستوطنين بتنويعاتها ستحارب من أجل الحفاظ على نفسها كجماعة إثنية ذات خصائص تميّزها عن الآخرين.
الإمبريالية العالمية هي من تدعم إسرائيل لما تقوم به من أدوار في الداخل "المحتل" والخارج
على خلفية ما سبق، يتناول الباحثون الإسرائيليون عدة عناصر أوّلها: الخصائص التي يتّسم بها المجتمع الإسرائيلي فيرصدون بأنها، أولًا: مجتمع من مهاجرين A Society of Immigrants؛ "يعاد تشكيل حياته حياة أفراده من خلال الهجرة"، ومن ثم فهو في حالة سيولة شبه دائمة. وثانيًا: مجتمع من المستوطنين A Society of Settlers؛ يقوم استيطانه للأرض على انتزاعها من أصحابها الأصليين، ومن ثم فهو "بالضرورة" في حالة مواجهة دائمة مع عدو خارجه وإن كان يعايشه على الأرض ذاتها التي يدعوها وطنًا. ثالثًا: مجتمع متنوّع عرقيًا Ethnic Diversity؛ ينبني على تراتبية عرقية واضحة، تجعل من التمييز العرقي دائمًا التفسير الأقرب لخيال الطبقات المستغلة لأوضاعهم. ورابعًا والأكثر أهمية: مجتمع يتميّز بامتيازات بفضل تدفق رأس المال من خارجه A Privileged Society: Capital Inflow؛ إذ يعتمد هذا المجتمع على رأس المال الخارجي بدلًا من مراكمته داخليًا. ما يسمح بألا تعتمد الرأسمالية المحلية بشكل كامل على استغلال الطبقة العاملة لإنتاج أرباحها، كما يسمح - بالتالي وبالضرورة - أن تكون المؤسسة الحاكمة، وبيروقراطية العمل في مقدمة مكوناتها، المسؤول عن توزيع رؤوس الأموال المتدفقة من الخارج، وأن تخصّص بالتالي الجزء الأهم لتوفير المقومات الأساسية للحياة.
ويستطرد المترجم في مقدمته بأنّ: "هذه الخصائص تعتمد في استمراريتها على الدعم الخارجي للمؤسسة الصهيونية". وربما يكون السؤال المشروع: ما الذي يدفع الخارج أن يستمر في دعمه؟، وربما يسبقه سؤال حول هوية الخارج؟.. يجيب الباحثون بأنّ الإمبريالية العالمية هي من تدعم إسرائيل لما تقوم به من أدوار في الداخل "المحتل" والخارج الإقليمي، والأفريقي.. إلخ.
وتخلص الدراسة، في نهاية الحديث عن العنصر الأول، إلى أنّ "الاقتصاد الإسرائيلي بأكمله مؤسّس على الدور السياسي والعسكري الخاص الذي تؤديه الصهيونية ومجتمع المستوطنين في الشرق الأوسط وخارجه.
أما عن ثاني عناصر الدراسة فيعنى بالإجابة عن سؤال: أي الطبقات هي الحاكمة؟ Which is the Ruling Class?؛ تشير الورقة إلى أنّ الطبقة الحاكمة - وقت كتابة الدراسة - قد ركّزت على الدور المحوري للطبقة البيروقراطية في إقصاء العمالة العربية لصالح "العمالة اليهودية فقط". لأنّ الهدف التاريخي من إنشاء إسرائيل هو "إنشاء دولة قومية يهودية خالصة في فلسطين وإزاحة السكان الأصليين". وقد قطعت بيروقراطية الدولة الصهيونية إمكانية نمو بورجوازية محلية بالمعنى الكلاسيكي تكون قادرة على قيادة التنمية.
تزايد هلامية المضمون الطبقي في الداخل الإسرائيلي لصالح تنامي قوة الصهيونية في أشد تجلياتها تشددًا
ويُفصل الباحثون "لم تكن الأيديولوجية المهيمنة رأسمالية على الإطلاق"، بل طغمة حاكمة عسكرية "تعبّر عن أهداف الصهيونية السياسية". ومن ثم كانت "المصلحة القومية قبل الطبقية" National Interest Before Class Interest؛ وظل هذا هو الحال مع تعاقب الحكومات المختلفة: اليسارية واليمينية المتشددة السياسية والدينية.
وفي هذا السياق، يشير المترجم في مقدمته، التي حاول فيها تحديث ما تأسّست عليه الدراسة قبل عقود، إلى أنّ هناك تحولًا في الداخل الإسرائيلي يعكس تململًا اجتماعيًا وطبقيًا نظرًا "لاتساع فجوة الدخول فيه بين الأكثر ثراءً والأكثر فقرًا"؛ يعكس "انقسامًا طبقيًا حادًا في المجتمع الإسرائيلي" كما رصدته دراسة صادرة في 2014، ما يعني أنّ إسرائيل الاستيطانية للتجمّع الصهيوني الذي يلعب دورًا إمبرياليًا قد باتت تواجه بتحديات مجتمعية في أداء دورها التي صُنعت من أجله ويستلزم الوقوف من الجميع على اختلافهم الاجتماعي والطبقي من أجل تعاظم الدولة النقية على حساب حقوق الأجيال الجديدة وتفاعلاتها الطبقية وتطلعاتها الاجتماعية.
يقيني أنّ منطلقات الدراسة لم تزل صالحة، وأننا في حاجة إلى متابعة ما يحدث في الداخل الإسرائيلي خاصة مع تزايد هلامية المضمون الطبقي - حسب أحد الباحثين - لصالح تنامي قوة الصهيونية في أشد تجلياتها تشددًا وتزايد الصراعات الإثنية والطبقية والحزبية وارتباك الخرائط الاجتماعية والتحالفات لكيان شائه طبقيًا لم يزل يعتمد على الدعم الخارجي.
(خاص "عروبة 22")