إنّ ما يحدث في دول العرب يكشف عن حالة حرب تجتاح المنطقة، وتنذر باستمرار الحرائق وتوسّعها، وتهدّد من يظن نفسه خارج أتون النار، فالكل قريب من هوة الفوضى، وما الحرب على غزّة إلا فصل من فصول تلك الرواية المأساوية التي يعيشها العرب المعاصرون، فالحرب هذه الأيام على كل شعوب المنطقة؛ لماذا؟
نستعير هنا عنوان رواية الأديب المصري يوسف القعيد "الحرب في بر مصر"، لنصف الحالة التي يمرّ بها العرب في العقود الأخيرة، فمن يتتبع ما جرى في عشرية الربيع العربي، وقبله الغزو الأمريكي للعراق، في عشرية تدمير بلاد الرافدين، سيجد أنّ المنطقة العربية فقدت كل مقوّمات المناعة الذاتية، وتحوّلت بشكل واقعي لا لبس فيه إلى ساحة أممية تلعب فيها الدول العظمى والإقليمية بكل أريحية، وما حدث في سوريا ليس ببعيد، حيث جيوش دول عدة تمرح على أرض عربية صارت محتلّة بفعل فاعل.
لن نخرج كعرب من الأزمة الحالية إلا بالعلم والعمل والبُعد عن الشعارات الضخمة ذات المضامين الهزيلة
لا نستطيع أن نلقي بالمسؤولية كلّها على القوى الخارجية، هذه مناورة مكشوفة لتبرئة الذات المدنّسة بالخطيئة، فما حدث ويحدث تقع مسؤوليته على العرب كلّهم، لكننا نخصّ الأنظمة والنخب بتحمّل الوزر الأكبر والإثم الأعظم، على ما وصلت إليه المنطقة من هشاشة جعلتها عرضة لجميع الاختراقات، فالحرب واقع تعيشه دول مفكّكة على أرض الواقع؛ العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان، وهناك دول مرشّحة للدخول في هوة الفوضى مثل الجزائر وتونس، بينما تعاني مصر من أزمة اقتصادية طاحنة وانسداد سياسي غير مبشّر.
لماذا وصلنا إلى هذا المصير الأسود الذي ينكّد على المواطن العربي أيامه؟.. كيف وصل الهوان بالعواصم العربية إلى أن تصاب بالجمود أمام استفراد الاحتلال الصهيوني بأبناء غزّة يقتل ويذبح الآلاف منهم بلا ضابط ولا رابط؟.. هنا معالم مرض استحكم في العرب المعاصرين، ويحتاج إلى مبضع جرّاح يفتح الجروح المتقيّحة والملتهبة التي تهدّد الجسد العربي بالبتر. أي في التحليل النهائي نحتاج مواجهة النفس، وفتح كل الملفات المغلقة في واقعنا، والبحث عن إجابات جيّدة لأسئلة نراوغ لكي نتهرّب من مواجهتها.
ضمن الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا؛ كيف انتهت الدولة الوطنية في ما بعد الاستقلال إلى محض ديكتاتوريات تستعبد الشعوب وتستبعدها، فجاءت النتيجة بهشاشة مجتمعية وإفقار وجهل؟، وكيف انتهت الصحوة الإسلاموية إلى محض إرهاب ورغبات مجنونة في التدمير والتكفير والعمالة لمخططات خارجية؟، ولماذا انتهت الليبرالية العربية إلى محض استجداء ومسخ لثقافة الغرب واستعلاء جاهل عن الواقع المجتمعي؟.
أي إجابة تشتبك مع هذه الأسئلة يجب أن تقوم على ركيزتين؛ الأولى إعادة النظر في تاريخ المنطقة، والبحث عن مكامن الفشل المترسّخ في التجارب العربية المعاصرة. هي قراءة متفاعلة إذن لا تعرف السكون ولا التبرير، ولا تعترف بالبحث عن الإجابات السهلة، ولا تقف أمام تقديس زعامة هنا، أو الانحياز لتاريخ قُطر بعينه هناك. قراءة تعتمد أساسًا على تحدي المسلّمات العربية غير المختبرة.
التشرذم العربي، الجرثومة التي دخلت منها كل الشرور إلى المنطقة المنكوبة
والركيزة الأخرى التي تقام عليها هذه المحاولة الاشتباكية هي الانغماس في الواقع العربي، ومحاولة فهم مدى تشابك أوضاعه وتعقّدها، يعني هذا ابتداءً عدم الاستعلاء على هذا الواقع والقطيعة معه، وهي آفة الكثير من أحاديث المثقفين العرب، الذين يعرفون شوارع مدن أوروبية، ويجهلون تفاصيل الحياة اليومية في مدنهم العربية. كذلك يجب أن لا تقع مثل هكذا قراءة في خطل التصورات الإسلاموية التي تروّج لأوضاع متخيّلة لتاريخ غير متحقّق على الأرض.
لن نخرج كعرب من الأزمة الحالية إلا بالعلم والعمل والبُعد عن الشعارات الضخمة ذات المضامين الهزيلة. هذه الحرب يجب أن تُخاض إذا كنا نريد أن نطفئ نار الحرب المشتعلة في كل ركن من أركان عالمنا العربي حاليًا، والبداية أن نبحث عن مناطق اتفاق بين أبناء أطياف التيارات الفكرية عبر إدارة الاختلاف، كأداة أساسية في التجذير لمسار جديد في الواقع العربي يقوم على الإلحاق لا الحذف، بمعنى أنّ الجميع مرحّب به في اقتراح أفكار واقعية بعيدًا عن المزايدات الفارغة؛ لمواجهة التشرذم العربي، هذه الجرثومة التي دخلت منها كل الشرور إلى المنطقة المنكوبة.
(خاص "عروبة 22")