ثقافة

المسرح التونسي... "أبو الفنون" من التنوير إلى التهميش!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1962 أطلق الرئيس التونسي الأسبق الزعيم الحبيب بورقيبة خطابًا خاصًا بالمسرح دعا خلاله إلى أن يكون هذا الفن مطية للتنوير ومقاومة الجهل والتخلّف، وإعداد الشعب الخارج توًا من حقبة استعمارية طويلة، لتقبّل أفكاره الإصلاحية.

المسرح التونسي...

كانت تلك الخطوة بمثابة التأسيس لمرحلة جديدة في مسيرة "أبو الفنون" في تونس، حيث فتحت المدارس والمعاهد لتدريس المسرح، وتكوّنت فرق مسرحية في الجهات بدل التمركز في العاصمة والمدن الساحلية وظهر المسرح المدرسي والجامعي. ورغم أنّ بورقيبة استفاد من المسرح على أكثر من صعيد، إلا أنّ المسرح التونسي نهض وتشكّل معه حتى أنه كان قادرًا على مواجهة حقبة الرئيس زين العابدين بكل قمعها البوليسي بل وتصدر الساحة المسرحية العربية.

لكن بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، وفيما كانت الآمال معلّقة على مزيد تطوير هذا الفن بعد انفتاح الحريات، حدث العكس. لم يستفد المسرح من هذا الوضع بل إنّ ريادته العربية باتت مهدّدة وأصبح جليًا أنّ هناك أزمة حقيقية يواجهها هذا الفن.

في أوائل السبعينيات شهدت الحركة المسرحية نقلة نوعية بتوقيع نخبة من الكتاب والمُخرجين وممثلي المسرح التونسي، وظهرت العديد من الفرق المسرحية لعبت دورًا كبيرًا في مجال الإنتاج المسرحي على غرار فرقة "قفصة" مع محمد رجاء فرحات والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ورؤوف بن عمر، وفرقة "الكاف" بإدارة المنصف السويسي، وفرقة "المسرح العضوي" مع عز الدين قنون، ثم تواصلت التجارب إلى أن شهدت سنة 1983 ميلاد المسرح الوطني.

ومنذ أوسط الثمانينات أصبحت الريادة للمسرح الخاص، الذي عوّل على الاحتراف وعدم انتظار ما تنتجه الهياكل الحكومية من أعمال فنية. إذ استطاع مسرح "التياترو" للمسرحي التونسي توفيق الجبالى، المسرح الخاص الأول في العالم العربي والذي تأسّس في أكتوبر/تشرين الأول 1987، خلق حالة متفرّدة في المسرح التونسي والعربي، تلاه في 1987 مسرح "الحمراء" الذي أسّسه المسرحي عز الدين قنون الذي كان له إشعاع عربي كبير نظرًا لطبيعة الأعمال التي ولدت من رحم هذا الفضاء إلى جانب تأسيسه لأول مركز عربي وأفريقي للتدريب والبحوث المسرحية والذي فتح مجال الإبداع المسرحي لأجيال كبيرة من القارة الأفريقية والوطن العربي منذ سنة 2001. واليوم هناك في تونس 145 شركة إنتاج خاصة في مجال المسرح.

ورغم محاولات السلطة احتواء المسرح وإدخاله إلى "بيت الطاعة" بفرض رقابة أمنية صارمة أواخر الثمانينيات والتسعينيات، إلا أنها لم تكن حائلًا أمام ازدهار التجارب المسرحية التونسية نصًا وإخراجًا. إذ نجح رواد المسرح في أن ينتجوا أعمالًا نقلت الواقع والقضايا التي كانت بمثابة الممنوعات بالنسبة للنظام وخاصة زين العابدين بن علي. إذ استطاعت أسماء مثل توفيق الجبالي وعز الدين قنون وجليلة بكار وفاضل الجعايبي والمنصف السويسي وغيرهم تقديم مسرح افتك الريادة عربيًا والتقدير دوليًا، كما نجح في استقطاب جمهور وفي تواق لكل ما يقدمونه في فترات كانت المسارح العربية تعاني مشكلة الإقبال الجماهيري المحدود على المسرح. وشهدت الحركة المسرحية التونسية انتعاشة شارك فيها العديد من الكتّاب والمخرجين المسرحيين تمكّنوا من صنع تاريخ مسرحي حافل بالعديد من الأعمال المتميّزة الذي جعلته يتصدّر المشهد المسرحي العربي عمومًا.

ورغم هذه الريادة والتنوع ورغم انخراط الدولة في دعم الحركة المسرحية ورغم واقع حرية التعبير والتراجع الكبير جدًا لرقابة الدولة على الأعمال الفنية بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، إلا أنّ الفن الرابع في تونس يواجه اليوم مشاكل كثيرة أبرزها نقص الدعم المادي للمشاريع المسرحية وخاصة مشاريع الشباب الذين يبحثون لأنفسهم عن فرصة لتقديم أفكارهم ورؤاهم في ساحة لم تعد مفتوحة للإبداع الحقيقي في ظل المحسوبيات وسيطرة الأسماء الكبيرة على المشهد. فرغم وجود العديد من الوجوه المسرحية الشابة الحاملة لمشاريع مسرحية رائدة على مستوى النص والإخراج والتمثيل، إلا أنها فشلت في الحصول على الدعم من الدولة في وقت تذهب فيه هذه الأموال لأعمال ضعيفة وفقيرة فنيًا.

وتقول الممثلة والمخرجة المسرحية التونسية خول الهادفي لـ"عروبة 22": "كانت هناك مشكلة توجّه قبل الثورة وتواصلت بعدها، وما يحدث الآن ليس إلا تسلسل طبيعي وتخبّط في المشاكل نفسها التي تفاقمت في الآونة الأخيرة بسبب غياب مشروع فني وثقافي من قبل وزارة الثقافة التي لا بد أن يطرح عليها اليوم سؤال واضح وهو: ما قيمة الفن وما قيمة المسرح في مجتمعنا؟ عندما تفهم الوزارة هذه القيمة حينها سيكون بوسعها وضع مشروعها. لا شيء يسير كما يجب بالنسبة إلى المسرح التونسي اليوم عدا أننا ننظّم مهرجانات وتظاهرات بشكل متوصل بلا أي هدف حقيقي، والحال أنّ هذه المهرجانات نفسها تعاني. أيضًا علينا أن نتساءل ماذا أعدت سلطة الإشراف من برامج وتصوّرات تساعد المسرح على التجديد والابتكار والإبداع والتأسيس لمرحلة جديدة من المسرح؟ وكيف تضع تصوراتها؟".

وتضيف، من جهة أخرى "هناك العديد من الوجوه المسرحية الهامة في تونس لها خط ورؤية فنية متفرّدة ومختلفة ولكنهم يتخبطوا في ظروف الانتاج وشح التمويلات التي تعتمد بالأساس على منحة الإبداع التي تسندها الوزارة وهي منحة ضئيلة جدا وأصبحت غير كافية لتغطية المصاريف وتأمين العروض ومنح الفنان حقه. هذه المنحة تعتبرها الوزارة مصدرًا من مصادر التمويل التي تساهم في الانتاج بمعنى أن الوزارة نفسها تعترف بأنها تقدم مبلغًا محدودًا وعليك أنت كمسرحي أن تبحث عن تمويل آخر، والحال أن الحصول على تمويلات للعروض المسرحية في تونس صعب جدًا حتى الشركات الخاصة تقدّم تمويلاتها لقطاعات أخرى ككرة القدم، ولا تقدّمها للمسرح بما في ذلك أيام قرطاج المسرحية".

تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة الثقافة التونسية تقدّم دعمًا سنويًا لقطاع المسرح يقدر بنحو 3.2 مليون دولار سنويًا، وتروج لكونها تسعى لتطوير القطاع ودعم أبنائه ومواجهة كل العقبات التي تعرقل سبل النهوض به. لكن الواقع يخالف الشعارات إذ تفتقر الوزارة منذ سنوات، وخاصة ما بعد الثورة، لمشروع ورؤية واضحتين ينظّمان القطاع ما أدى مع مرور السنوات لتراجع "أبو الفنون" في تونس ومعاناة أبنائه من الفقر والتهميش والتجاهل من سلطات الإشراف.

وتطالب الهادفي وزارة الثقافة بإعادة هيكلة التمويلات، كأن يتم اختيار المشاريع الأفضل لتمويلها لا أن توزّع مبلغ الدعم على عدد كبير بحيث تكون بذلك المبالغ المرصودة غير كافية لانجاز عرض مسرحي. أيضًا تطالب الوزارة بالاتفاق مع بعض المسرحيين بما في ذلك الشباب لإنتاج أعمال متفرّدة حول بعض المواضيع على أن توفّر لهم التمويل الكافي لا سيّما وأنّ هذا التوجّه ليس بالجديد ويتم اعتماده في عدة دول أوربية. كما تدعو الوزارة إلى إعادة النظر في منحة العروض المدعّمة "المخجلة" لدرجة أنّ المسرحيين، وهي من بينهم، يرفضون التنقّل خارج العاصمة لتقديم العروض لأن الدعم المقدّم لهم لا يكفي لدفع مصاريف العرض سواء للتقنيين أو الممثلين وغيرهم.

وتتابع المسرحية التونسية قولها: "إنّ حرية التعبير وحدها غير كافية  لخلق واقع مسرحي رائد، فهناك غياب للاستمرارية في الانتاج وهناك غياب للفرق المهيكلة ذات الاستراتيجيات الواضحة التي تعمل بصفة متواصلة ومسترسلة من شأنها أن تخلق تيارًا مسرحيًا وفكريًا قادرّا على أن يحقق الريادة فعليًا في المنطقة باستثناء أعداد محدودة تقوم بجهود كبيرة. حتى مهرجان أيام قرطاج المسرحية العريق لا بد أن يستقل بذاته ويخرج من جلباب إدارة التظاهرات التابعة لوزارة الثقافة ويستقل ماديًا ومعنويًا لأنه مقيّد والبيروقراطية "أكلته". هذا دون أن ننسى فكرة مراكز الفنون الدرامية التي لا بد أن تتم مراجعة برامجها وميزانياتها وتصوّراتها حتى تكون قادرة فعلًا على تقديم عروض وتظاهرات مسرحية في ظروف ملائمة لا أن يجد الكثير منها نفسه عاجزا تمامًا عن النشاط".

ورغم الاستقلالية النسبية التي يتمتع بها المسرح في تونس، في ظل وجود الفضاءات الخاصة وشركات الإنتاج، إلا أنّ الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تمثل أحد الدعائم الأساسية لاستمرارية الحركة المسرحية، سواء عبر تمويل الأعمال المسرحية أو دعم العروض. لكن هذا الدعم لم يعد كافيًا اليوم، الأمر الذي انعكس سلبًا على جودة الأعمال وعددها أيضًا فضلًا عن ضعف حتى المهرجانات وتراجع كبرياتها على غرار أيام قرطاج المسرحية وفقدانها لبريقها المعهود.

وهذا ما يؤكده المخرج المسرحي التونسي وليد الدغسني الذي قال لـ"عروبة 22": "إنّ تراجع الحركة المسرحية في تونس في مستوى جودة الانتاج، تتحمّل فيه الدولة الجزء الأكبر من المسؤولية لأنها عزّزت فوضى القطاع عبر إغراقه بالشركات الخاصة ومراكز الفنون الدرامية دون أي أفق محتمل للنجاح. وها نحن اليوم نشاهد النتيجة الكارثية لكل تلك السياسات العشوائية، والتي لم تعق الجيل الجديد فقط بل مست حتى الرواد الذين طالتهم يد التهميش والشعبوية النقابية والغوغاء المشيطنة والتهم الباطلة. فابتعد الكثير منهم، ورحل آخرون فيما بقي فضاء "التياترو" مثلًا صامدًا بعد أن تمكّن من إيجاد طرق جديدة لضمان استمراريته وخاصة على المستوى المادي".

ويضيف: "إن ما يعيشه المسرح اليوم من واقع صعب، أساسه ضعف البرامج للنهوض بهذا القطاع، وتملّص الدولة من مسؤوليتها في حمايته وكذلك تراخي المسرحيين في المطالبة بما يضمن كرامتهم، إضافة إلى ارتباك التكوين المسرحي الذي أضعف المعاهد العليا وشوّش عليها. حيث صار التكوين المسرحي متاحًا لمن هبّ ودبّ برعاية من رأس المال الذي يواصل تشغيل ماكيناته التجارية ويلقي بأذرعه في كل مكان مستعينًا بقوة الإعلام. فلاحظنا عددًا ضخمًا من عروض الـ"وان مان شو" وإقصاء ممنهج للمسرحيات الهادفة والتي فيها جهد وتفكير وتُكبّد أصحابها الأمرّين من أجل أن تبصر النور".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن