الأسباب في ذلك الحذر عديدة، بعضها يتعلّق بالخبرة التاريخية وبعضها يتعلّق بالعوامل المتحكّمة في مجرى الحرب محليًا وإقليميًا ودوليًا. إذ لا تغيب عن ذاكرة جيلي من العرب مرارة العمر كلّه في كيف أنّ النصر الاستراتيجي الذي حققه انتصار العبور في أكتوبر ٧٣ انقلب لاحقًا، بفعل اختيارات السادات وتلاعب كيسنجر واتفاق فيصل - نيكسون وتواطؤ المعسكر الأمريكي الإقليمي المكوّن وقتها من إيران الشاه ودول عربية، إلى هزيمة استراتيجية كاملة.
في هذه الهزيمة عشنا ونعيش عصرًا لم نحظ فيه كمواطنين بعدها بيوم يتيم للتضامن العربي، وانهار النظام الإقليمي العربي كلّه بل وتم تفكيك الدولة الوطنية العربية. وربما بسبب هذه المرارة التي ما زالت عالقة في سقف الحلق يتحفظ المرء كثيرًا حتى لو هذا الانتصار هو "طوفان الأقصى" أعظم عمل عسكري عربي في الخمسين سنة الأخيرة وأكبر إذلال تعرّضت له إسرائيل منذ نكبة إنشائها قبل ٧٥ عامًا.
لكن يستطيع المرء وبمنتهى الواقعية وبكامل المنهج المتحفّظ أن يقول إنّ المقاومة الفلسطينية قد ربحت الجولة الأولى في هذه المعركة بإجماع الحكّام.
السبب الأول والأهم لحقيقة أنّ المقاومة انتصرت، هو أنّ قرار بدء الحرب وشنّ الهجوم العبقري في ٧ أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان بيدها هي فقط ولا تأثير ولا علم لطرف آخر عليه أو به، وكذلك كان قرار صمودها الأسطوري لمدة قاربت ٧ أسابيع أمام حرب أمريكية إسرائيلية.
استقلال "حماس" في اتخاذ قرار الهجوم مكّنها من تحقيق النصف الأول من النصر في هذه الجولة من خلال مباغتة العدو ومفاجأته استراتيجيًا، وهدم نظرية الردع وإنهاء ثقة الجمهور الإسرائيلي في مؤسسته العسكرية والأمنية والسياسية والقضاء - وهذا هو الأخطر - على شعور هذا الجمهور بأنّ إسرائيل بلد آمن لليهود.
فشل العدو في تحقيق أهدافه السياسية في الجولة الأولى، وحققت المقاومة هدفيها السياسيين
واستقلال قرار "حماس" و"الجهاد" في التصدي للعدوان والذي كبّد العدو ما لم يتوقعه من خسائر بشرية فادحة في توغله البري، هو الذي مكّنهم من تحقيق النصف الثاني من النصر في الجولة الأولى، وهو ما يُعرف في علم الحرب بـ"منع العدو من تحقيق أهدافه السياسية من العملية العسكرية".
الحكومة الإسرائيلية في تصريح رسمي حدّدت هذه الأهداف في ٣ أهداف هي؛ استعادة المخطوفين عبر الحملة العسكرية وليس عبر التفاوض، واجتثاث "حماس"، وضمان أنّ قطاع غزة لن يشكّل تهديدًا على أمن إسرائيل في المستقبل. ولا يستطيع أي عاقل حتى من الجانب الإسرائيلي والأمريكي أن يزعم أنّ إسرائيل حققت أو حتى كانت قريبة من تحقيق هذه الأهداف عند نهاية الجولة الأولى بتوقيع اتفاق الهدنة.
وبينما فشل العدو في تحقيق أهدافه السياسية في الجولة الأولى، حققت المقاومة هدفيها السياسيين اللذين أعلنت أنهما كانا وراء هجوم "طوفان الأقصى"، الأول حققته كاملًا وهو إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة جدول الأعمال الدولي بعد أن كان التآمر الأمريكي - الإسرائيلي قد دفعها إلى سرداب التجاهل والنسيان عقدين من الزمن. والهدف الثاني حققته جزئيًا وهو مبادلة جزء من الأسرى الإسرائيليين والأجانب بالأسرى الفلسطينيين.
كسرت المقاومة إرادة العدو ومرّغت في الوحل كل "لاءاته" بما فيها أنه لن يسمح بدخول نقطة سولار واحدة وسيقطع الماء والغذاء والكهرباء، لكنه اضطر صاغرًا لقبول كل هذا في اتفاق الهدنة.
مصير الحرب ما زال مفتوحًا على كل الاحتمالات
بعد انتصار المقاومة في اقتحام غلاف غزّة وتدمير فرقتها الشهيرة، واقتحام الكيبوتسات ثم عودتها للقطاع مع كنز تفاوضي يقترب من ٣٠٠ أسير، لم تعد المبادرة بيدها فقط فلقد غيّرت بعمليتها الجبارة والجريئة كل قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وهددت الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة على المنطقة، وهددت بزيادة احتمالات الخروج من نظام القطب الواحد المهيمن.
هنا تغيّر المشهد تغيّرًا كاملًا ولم يعد مصير ومسار الحرب النهائية في يد المقاومة فحسب، إذ أصبح أزمة بل الأزمة الدولية الأولى بامتياز دافعًا حتى بحرب أوكرانيا، حرب الناتو الأثيرة، إلى الظل.
لم يقتصر الأمر على تعدّد الإرادات في الصراع الذي أوقف العالم كلّه على رجل واحدة ولكن تعداه إلى عدم تناسب ردود أفعال ومواقف الأطراف العربية والإقليمية والدولية التي كان بإمكانها تلقّف وتثبيت النصر الأول المذهل للمقاومة في يوم السابع من أكتوبر:
- لم تندلع انتفاضة في الضفة الغربية وفي داخل الخط الأخضر كما توقعت المقاومة، فقد تكفّلت تفاهمات السلطة الفلسطينية الأمنية بتقييد الفلسطينيين وتكفلت هجمات جيش الاحتلال على جنين وغيرها بالباقي، كما قمعت شرطة الاحتلال في المهد المظاهرات التي نظّمها فلسطينيو الـ٤٨.
- العالم العربي كان أضعف وأقل همّة من أن يستفيد من الفرصة التاريخية التي منحتها له "طوفان الأقصى" لتعديل الميزان المختل في علاقته مع واشنطن منذ تفاهمات كيسنجر - السادات وفيصل - نيكسون قبل نحو ٥٠ عامًا. وظلّت الدول الموجودة في الخندق أو المحور الأمريكي قابعة فيه، والدول التي مضت وتمضي في طريق التطبيع بدت مصمّمة عليه حتى لو غرقت غزّة في البحر.
إحباط العرب للمقاومة زاد منه التزام محور الممانعة بقيادة إيران بقرار عدم الدخول في حرب شاملة إقليمية
بل ويمكن القول إنّ الموقف الحقيقي للبعض هو عدم الممانعة في تصفية "حماس"، إذ لا يصنّفها كجزء من حركة التحرّر الوطني الفلسطيني وإنما يعتبرها عدوًا فيحسبها إيديولوجيًا على الإخوان المسلمين وسياسيًا لصالح إيران.
- إحباط العرب للمقاومة زاد منه التزام محور الممانعة بقيادة إيران بقرار استراتيجي هو عدم الدخول في حرب شاملة إقليمية وإبقاء "حزب الله" والفصائل في العراق وسوريا والحوثيين في اليمن في حدود القتال المحدود ولكن دون الوصول لعتبة "وحدة الساحات" أو مرحلة الحرب الشاملة.
- إحباط دولي، إذ تراجعت الصين وروسيا بفداحة أمام الغضبة الأمريكية وما تخلّلته من عمليات استعراض العضلات العسكرية بالغواصات وحاملات الطائرات التي دفعتها واشنطن للمنطقة في ظل غياب كامل من بكين وموسكو.
- عدم تحقّق التوقعات لمساندة المقاومة وللاستفادة من نصر ٧ أكتوبر/تشرين الأول، واجهه تحقق كامل التوقعات الإسرائيلية في المساندة الأمريكية المطلقة، لا يتعلق الأمر بالجسر العسكري ولا بالدعم الاقتصادي الذي يعوّض إسرائيل عن تكلفة الحرب، ولكن يتعلق أيضًا بمنع الأمم المتحدة من صدور أي قرار يوقف الحرب وهو ما يعطي للعدوان كل الوقت الذي يريده للاستفراد بالمقاومة.
نتيجة الحرب ستكون محصورة في عاملين ليس للعرب فيهما أي وزن
تمكّنت أمريكا من تعديل مخيف لقسم كبير من موازين القوى القديمة المجحفة التي كان نصر المقاومة قد أطاح بها لوهلة، وتمكنت واشنطن من وضع الفاعلين الدوليين على الخطوط الجانبية وجددت انفرادها بقيادة الجهد السياسي المصاحب للحرب.
ولكن بعد العامل الأمريكي - الإسرائيلي يبقى أنّ نتيجة الحرب ستكون محصورة في عاملين ليس للعرب فيهما أي وزن؛ الأول هو الوقت الذي يمكن أن تصمد فيه المقاومة وهو وقت كبير قياسًا على أدائهم البطولي والكفء، والعامل الثاني هو الوقت الذي يمكن أن تصل به الضغوط الشعبية في الغرب إلى نقطة إجبار حكوماته المتواطئة على وقف الحرب وتمزيق الشيك الممنوح على بياض لإسرائيل في قتل وإبادة الفلسطينيين.
(خاص "عروبة 22")