وجهات نظر

"وحدة الساحات".. أم تعدّدها؟

رفع "حزب الله" شعار "وحدة ساحات" المقاومة منذ فترة طويلة، وتصوّر الكثيرون أنّ اندلاع المواجهة في فلسطين سيعني تلقائيًا وفق هذا الشعار اندلاع الحرب في لبنان، وهو ما لم يحدث رغم أنّ اعتداءات جيش الاحتلال على أهالي غزّة مستمرة منذ أكثر من شهر ونصف.

الحقيقة أنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل شعار "وحدة الساحات" يمكن تطبيقه عمليًا بعد التحوّلات التي شهدتها المنطقة وأيضًا تأثير الواقع المحيط على حسابات ليس فقط "حزب الله" إنما أيضًا باقي فصائل المقاومة التي بات من الصعب معها التسليم بصحة مقولة "وحدة الساحات"؟.

المؤكد، أنّ شعار "وحدة ساحات" المقاومة ينطلق من فكرة عقائدية تتصوّر أنّ خيارات أحزاب المقاومة في أي مكان وفي أي سياق وفي أي توقيت واحدة، نظرًا لوجود الرابط الإيديولوجي الواحد الذي يجمعها وهو مقاومة إسرائيل، وثبت في الواقع العملي أنّ الرابطة العقائدية لا تكفي بمفردها لكي يقرّر الجميع في التوقيت نفسه محاربة إسرائيل، إنما هناك حسابات داخلية وإقليمية تجعل هذا الخيار ليس واحدًا.

والحقيقة أنّ السؤال الذي يطرح نفسه هل تغيّر "حزب الله" ولم يعد هو حزب "المقاومة النقية" كما كان عليه الحال في عام 2000 حين خاض وقاد مقاومة بطولية من أجل تحرير الجنوب اللبناني وانتصر لأنه خاض معركة تحرير أرض لبنانية محتلّة بعيدًا عن الحسابات الاستراتيجية الإيرانية، وكان وقتها خارج حسابات السياسة الداخلية اللبنانية ودهاليزها.

وقد دخل "حزب الله" في مواجهة مسلّحة ضد إسرائيل بعد تحرير الجنوب في 2006 أثارت جدلًا واسعًا، صحيح أنها تركت صور صمود في مقاومة الجبروت الإسرائيلي فإنها أيضًا خلّفت مآسي كبرى على لبنان واللبنانيين جراء الغارات والاعتداءات الإسرائيلية، ويمكن القول إنّ هذه المعركة مثّلت نقطة فاصلة بين الصورة التي كان عليها "حزب الله" أثناء معركته الوطنية الجامعة لتحرير الجنوب في عام 2000 وبين أسلوب وحسابات مواجهة إسرائيل في الوقت الحالي.

ثبت في الواقع العملي أنّ هناك فروقات كبيرة في الساحات ولا يمكن التسليم بأنها واحدة

ورغم أنّ "حزب الله" يُعتبر جزءًا من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة وتحالفه الوثيق مع طهران واضح ومعلن، إلا إنه في الوقت نفسه أخذ بعين الاعتبار تقديرات الساحة اللبنانية التي رأى قطاع واسع من اللبنانيين بمختلف طوائفهم وأحزابهم أنّ البلد غير مؤهّل لخوض حرب ضد إسرائيل يدمّر فيها ما تبقى من مؤسساته شبه المنهارة ويعمّق من أزماته الاقتصادية، بما فيها تيار يُعتد به داخل البيئة الشيعية الحاضنة لـ"حزب الله" والتي بدورها لا ترغب في الدخول في حرب مع إسرائيل تدمّر فيها قرى الجنوب وتهدم الضاحية الجنوبية لبيروت وتضيف آلاف الشهداء المدنيين إلى مسلسل الشهداء في فلسطين.

والمؤكد أنّ اختيار "حزب الله" نمط المواجهة المحسوبة ضد إسرائيل التي لا تؤدي حتى الآن إلى مواجهة شاملة - قد تحدث لخطأ في الحسابات وليس بالضرورة لقرار باندلاعها - كلّفه ما يقرب من 100 شهيد في مقابل قتلى وجرحى من الجانب الإسرائيلي، ومهما قيل عن أنّ إيران لا ترغب في الوقت الحالي في مواجهة شاملة مع إسرائيل، وهو صحيح، فإنّ هذا لا يمنع أنّ "حزب الله" أخذ بعين الاعتبار طبيعة الساحة اللبنانية ومشاكلها ورغبة غالبية أهلها في عدم الدخول في حرب مع إسرائيل ستدمّر ما تبقى من لبنان.

صحيح أنّ البعض كان سيهاجمه بقسوة أشد لو فعل العكس ودخل في مواجهة شاملة مع إسرائيل، فكانت ستنهال عليه السهام من كل جانب بالقول إنه ورّط لبنان ودمّره في حرب لا يرى الغالبية العظمى من اللبنانيين إنهم مضطرون أو مستعدون مثل باقي الدول العربية للدخول فيها.

إنّ شعار "وحدة الساحات" يعني عمليًا أنّ الحسابات الوحيدة في مواجهة إسرائيل هي الحسابات العقائدية والايديولوجية التي تجمع الجميع من "حزب الله" حتى حركة "حماس"، ومن حركة "الجهاد" حتى جماعة "أنصار الله" الحوثية في مواجهة إسرائيل، وثبت في الواقع العملي أنّ هناك فروقات كبيرة في الساحات ولا يمكن التسليم بأنها واحدة.

من المهم أن يعي الجميع أنّ حسابات التنظيمات العقائدية لا يمكن أن تنفصل عن الساحة التي يتحرّك فيها كل تنظيم، ويجب عدم الاستعلاء على هذه الحسابات باسم المقاومة أو غيرها، وإنّ حالة الساحة الفلسطينية تقول للجميع إنّ ما أقدمت عليه "حماس" والدعم الشعبي الذي نالته من أغلب الجماهير العربية يرجع لكون الثمن الذي تدفعه الحركة والشعب الفلسطيني دفعته مجتمعات كثيرة من أجل نيل حريتها واستقلالها، وهو ما جرى بصورة مختلفة في لبنان أثناء حرب تحرير الجنوب في عام 2000، وهو أمر يختلف عن حسابات شعوب ومجتمعات أخرى أرضها ليست محتلّة، وتضامنها الكامل مع الحق الفلسطيني لا يصل بالضرورة إلى الانخراط في مواجهة مسلّحة إنما يُكتفى بالدعم المادي والمعنوي ومواجهة دولة الاحتلال قانونيًا وسياسيًا في كل مكان في العالم (وهو غير متحقق).

كل الساحات مطالَبة بدعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، كلٌّ منها بطريقته وبما استطاع إليه سبيلًا

أن يكون لـ"حزب الله" حسابات داخلية وإقليمية تجعل ساحته اللبنانية مختلفة عن الساحة الفلسطينية يجب أن لا يكون في ذاته محل نقد، ولكن يجب أن يترتّب عليه سلوك في الداخل لا يعطي "حصانة للمقاومة" في وجه مخالفيه في التوجّه والرؤيا، إنما أن يعتبر أخذه بعين الاعتبار لتقديرات شركائه في الوطن قبل تقديرات إيران وهو ما سيعزز من مكانته في الداخل كحزب سياسي لا يسعى إلى الهيمنة على النظام اللبناني مستخدمًا راية سلاح المقاومة أو "وحدة الساحات".

الواقع العلمي يقول إنّ هناك تنوّعًا مشروعًا في ساحات المقاومة وإنّ المطلوب ليس توحيده بسبب "رابطة إيديولوجية" بين فصائله تتجاهل تقديرات المواطنين وستأتي حتمًا على حسابهم في كل ساحة، وإنّ الساحة الفلسطينية التي يعاني شعبها من احتلال استطياني غاشم هناك أقلية تقول هل كان يمكن عدم قيام "حماس" بعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى لا يسقط هذا العدد من الشهداء؟. صحيح أنّ هؤلاء أقلية وصحيح أيضًا أنهم لا يدينون "حماس" إنما يتألّمون من هذا العدد المرعب من الضحايا والأطفال حتى لو لم يكن تساؤلهم دقيقًا.

من المهم البناء على واقع تنوّع الساحات وليس وحدتها حتى لو كانت كل الساحات مطالَبة بدعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، كلٌّ منها بطريقته وكلٌّ بما استطاع إليه سبيلًا، وليس وفق صورة واحدة أو نمط واحد من المقاومة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن