ولا تقتصر الأنشطة السورية على اللقاءات الفيزيائية، التي يتم بعضها في الداخل الموزّع بين كيانات الأمر الواقع وتعدّد السيطرات، وفي تركيا التي تضم أكبر تجمّع للسوريين في الشتات، وفي بلدان القارة الأوروبية وقد صارت ألمانيا المركز الأكبر لوجود السوريين ونشاطاتهم فيها، وحيث تعذرت اللقاءات الفيزيائية، فإنّ البديل سهل نتيجة الإمكانيات التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، وقد باتت توفر فرصًا عملية وشبه مجانية.
وإذا كان من الصحيح، أنّ أهدفًا متعددة تقف وراء تلك الأنشطة، فإنّ الهدف الأساسي والأهم، إنما ينبع من حاجة السوريين للبحث في قضيّتهم، وتوليد أدوات وأساليب وخطط، تأخذهم إلى معالجة قضيّتهم، وما تركته من آثار كارثية على حياتهم ومستقبلهم وعلى بلدهم بعد أكثر من اثني عشر عامًا من حرب نظام الأسد وحلفائه ضدهم ومن التدخلات الإقليمية والدولية في بلدهم ومن ممارسات جماعات التطرّف الديني والعرقي في سوريا.
أغلب التدخلات الإقليمية والدولية كان بحثًا عن موطئ قدم يعزّز مصالح الأطراف الإقليمية والدولية في سوريا وحولها
ولا تمثّل مساعي السوريين في هذا المجال حاجة لتجاوز ما هم فيه فقط. بل هي ضرورة في ظل الفشل الذي وصلت إليه حالة وأداء تنظيماتهم السياسية والمسلحة القديمة منها والحديثة التكوين، والتي أظهرت عجزها عن معالجة قضايا ومشكلات، كان من الطبيعي علاجها بالإمكانيات المتاحة، إن لم نقل بجزء منها، وسط عجز تام كان من ملامحه أنّ التنظيمات السياسية والمسلحة ذاتها، تحوّلت إلى مشكلة، تكرّست تبعيتها وفقدت القدرة على اتخاذ القرارات والمواقف استنادًا إلى المصلحة الوطنية، وهذا الأهم في حالة التردي والتدهور الحاصلة في القضية السورية وفي أحوال السوريين، وهي، بين دوافع، تجعل من الضرورة إسقاط ما يمكن من تلك التنظيمات أو حلّها بعد أن فشلت مساعي إصلاحها مرة وراء أخرى، والسعي إلى خلق بدائل، تأخذ السوريين وقضيّتهم في الطريق الصحيح، وتضعهم على أول الطريق في الحد الأدنى.
إنّ فشل السوريين وجماعتهم السياسية والمسلحة في الاستجابة للأعباء والمهمات، التي فرضتها القضية السورية وتطوراتها، إنما كان محكومًا بثلاثة عوامل أساسية، أولها الضعف التاريخي الموروث في بنية المعارضة السورية وتجربتها، وهو ما كانت تسعى للتغلّب عليه في فترة ربيع دمشق بداية العشرية الأولى، وقد فاجأتها ثورة السوريين عام 2011، قبل أن تحقّق تقدمًا ملموسًا، فسعت بما هي عليه إلى مهماتها بما فيها من مشاكل، وما يحيط بها من صعوبات وسط ضغوطات سياسية وأمنية كبيرة، والسبب الثاني ما أفرزته الثورة من حراك داخلي خارجي، عماده في الداخل نشطاء شجعان، لكنهم محدودو الخبرات والقدرات، أما في الخارج فكان أكثرهم من مهجّري جماعات المعارضة وأبنائهم ولا سيما "الإخوان المسلمين"، ومن أعضاء في جاليات السوريين عبر العالم، وقد جذبتهم الثورة للبحث عن دور لهم فيها وفي مستقبل سوريا، وتجسّد السبب الثالث في التدخلات الإقليمية والدولية، التي وإن تخفّى أغلبها وراء يافطة دعم ومناصرة ثورة السوريين في مواجهة نظام الأسد بتاريخه الأسود، فإنّ أغلب التدخلات كان بحثًا عن موطئ قدم، يعزّز مصالح الأطراف الإقليمية والدولية في سوريا وحولها.
سوء سياسة المعارضة السياسية لم يكن بمستوى ما لحق بالسوريين وقضيّتهم من أضرار على يد الجماعات المسلحة
وسط شبكة معقّدة من وقائع ومعطيات مختلطة، فشلت المعارضة السياسية سواء في شقها الداخلي ممثلاً بـ"هيئة التنسيق الوطنية" وما حولها وبقربها، أو في الشق الخارجي الذي مثّله في البداية المجلس الوطني السوري، ثم خليفته الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة وما حولهما، رغم مساعي كل من الثلاثة لأجل توسيع حضوره وتأثيره في صفوف ناشطي الحراك الثوري وممثلي المكونات الأقلوية، وقد تراجع دور قوى المعارضة ومكانتها عند غالبية السوريين، بل ولدى القوى والمنظمات الإقليمية والدولية التي كانت على علاقة بها أو قريبة منها.
وللحق، فإنّ سوء سياسة المعارضة السياسية وإضرارها بالسوريين وقضيّتهم في المستويات كافة، لم يكن بمستوى ما لحق بالسوريين وقضيّتهم من أضرار على يد الجماعات المسلحة، التي ولدت في المعلن للدفاع عن السوريين وحواضن الثورة في مواجهة نظام الأسد وأدواته، ثم حلفائه، وما لبث أن تحوّل بعضها إلى أدوات في يد قوى إسلامية محلية للانتقام من النظام وحواضنه على أرضية "طائفية"، ثم دخل في صراعات بينية، قتلت ودمّرت فيها قدرات وطاقات بشرية ومادية كبيرة، قبل أن يتحوّل ما تبقى منها إلى أدوات في يد قوى إقليمية ودولية، تلبي احتياجاتها، وتحقق مصالحها في الصراع السوري. إنّ الأمثلة في هذا السياق أكثر من أن تُحصى في تنظيمات مسلحة تتصل بـ"الإخوان المسلمين السوريين" منها الدروع، وأخرى تنتمي إلى الجهادية السلفية مثل "حركة أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، وأخرى تتصل بـ"القاعدة" و"داعش" عبر أجهزة مخابرات عربية وأجنبية من إيرانية وتركية وأوروبية، وصولًا إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي لا تخفي علاقاتها الوثيقة المتعددة الجوانب مع الولايات المتحدة الأميركية وغيرها.
جذر مشكلة نظام الأسد مع السياسة، يتصل بطبيعة النظام بوصفه نظامًا ديكتاتوريًا بوليسيًا
غير أنّ مشكلة عجز السياسة في سوريا عن تلبية احتياجات السوريين وإيصال قضيتهم إلى حل، ليست حكرًا على المعارضة بالشقين السياسي والمسلح وما هو موجود بقربها أو محسوب عليها، بل هي جزء بنيوي ومشكلة في واقع نظام الأسد الذي لم يكن في يوم من الأيام نظامًا سياسيًا في مستوى إدارة البلاد وشؤونها المختلفة، لكنه كان يقارب السياسة في مواقفه وعلاقاته الخارجية فقط، إذا كان مجبرًا في هذا الجانب، ولا يملك خيار القدرة على سياسة الإكراه والإملاء، وممارسة إرهاب الدولة أو الاستعانة بجماعات إرهابية وثيقة الصلة به في التأثير على أطراف إقليمية ودولية، وهناك كثير في تاريخه وعلاقاته من أمثلة أحاطت بعلاقاته خاصة مع البلدان العربية، ومنها علاقاته مع لبنان التي احتلّها ونكّل بشعبها وشوّه نخبتها لمدة بلغت نحو ثلاثين عامًا، ومع العراق الذي تصارع مع قيادتها أكثر من ذلك، وفي العلاقة مع الفلسطينيين ورئيسهم الراحل ياسر عرفات وغيره من قياداتهم.
إنّ جذر مشكلة نظام الأسد مع السياسة، يتصل بطبيعة النظام بوصفه نظامًا ديكتاتوريًا بوليسيًا، وبسبب طبيعته، فإنه حافظ على ما اتخذه "البعث"، الذي كان حافظ الأسد أحد أركانه عقب انقلابه في آذار 1963، من إجراءات غايتها تدمير البيئة السياسية ومحاربة الفكر والتنظيمات والشخصيات السياسية، وتغييب الإعلام، وقد أضاف إلى ما سبق، أن وضع الجماعات السياسية في سوريا أمام واحد من خيارين، إما الانصياع للنظام ودخول حظيرته تحت لافتة الجبهة الوطنية التقدّمية في العام 1972، التي يقودها حزب النظام مقابل فتات من مصالح، أو الملاحقة التي تضع التنظيمات أمام الاعتقال الذي يمكن أن يصل حد الموت، كما حدث لقيادات البعث الديمقراطي من رفاق الأسد، وبينهم نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وآخرون من تنظيمات بينهم "الإخوان المسلمين" والطليعة المقاتلة الذين قتل مئات منهم في مذبحة سجن تدمر، وقتل آخرين من بعث العراق وتنظيمات ماركسية عدة، وذهب كثيرون إلى المنفى هربًا من الاعتقال والموت، وقُدّر عدد الذين غادروا سوريا مع عائلاتهم في خلال أحداث ثمانينات القرن الماضي وما بعدها بحوالى ربع مليون نسمة.
لقد مضى الأسد الإبن على خطى أبيه في النظام الدكتاتوري البوليسي بعد استلامه السلطة عام 2000، وحاول الظهور بصورة المختلف تحت يافطة إصلاح النظام وتحديثه، غير أنّ المحاولة لم يقيض لها أن تستمر طويلًا نتيجة تناقضها مع طبيعة النظام، وتلاحقت هجمات النظام الأمنية على ناشطي ربيع دمشق 2001 وإعلان بيروت دمشق - دمشق بيروت في 2006 وإعلان دمشق عام 2007، مبشّرًا بمسار الدم والدمار الذي بدأه مع انطلاقة ثورة السوريين عام 2011، عندما قرّر رفض المعالجات السياسية للوضع السوري، واللجوء إلى الحل الأمني العسكري الذي ما زال يسير به منذ أكثر من اثني عشر عامًا.
(خاص "عروبة 22")