صحافة

لاريجاني في بغداد وبيروت بعد موسكو: أيّ تبليط للبحار؟

صبحي حديدي

المشاركة
لاريجاني في بغداد وبيروت بعد موسكو: أيّ تبليط للبحار؟

خلال فترة زمنية قصيرة، لا تُقاس بتباعد الأصقاع أو تدانيها بقدر ما ترسمها هاويات فاغرة بين بقعة وأخرى، زار علي لاريجاني موسكو وبغداد وبيروت؛ بصفته الرسمية الجديدة في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وبوظائفه غير المعلَنة المستجدة أيضاً: تارة كمهندس يسعى لإدارة ما تبقى من نفوذ إيراني في أطلال "الممانعة"، أو نفخ الحياة في توافقات جيو ـ سياسية إقليمية وعالمية هنا وهناك تارة أخرى، أو تولّي مهامّ إطفائي حسير الأدوات ينفخ في قربة فارغة أمام حرائق طهران شديدة الاشتعال.

والمراقب لشؤون إيران وشجونها، سواء أكان من طراز الناظر العادي أو المتابع المدقق وليس المحلل الأريب بالضرورة، لن يُلام إذا أعاد لارجاني 2025، حامل الأعباء المشار إليها في الفقرة السالفة؛ إلى لاريجاني نفسه في وزارة الثقافة، مطلع تسعينيات القرن المنصرم؛ وأمانة المجلس الأعلى للأمن القومي سنة 2005، ومعها إدارة التفاوض مع الغرب على ملفّ إيران النووي؛ وسنة 2007، حين أُجبر على تقديم استقالته؛ والرجل نفسه في رئاسة مجلس الشورى، طوال 12 سنة، وعضوية مجلس تشخيص مصلحة النظام، ورئاسة البرلمان؛ وصولاً إلى الاكتفاء بمركز الدراسات الإسلامية، في مدينة قم وليس في العاصمة. وقبل هذه وتلك: الترشّح لانتخابات الرئاسة سنة 2005 أيضاً، بمصادقة من المرشد الأعلى علي خامنئي، والاكتفاء من الهزيمة النكراء بالمركز السادس، ونسبة 5,94٪!

والحال أنّ دلالات هذا المسار تتجاوز بكثير مجرّد التقلّب في الوظائف والمهامّ، وحال لاريجاني يتماثل في كثير أو قليل مع العشرات من نظرائه على امتداد السنوات الـ46 من عمر الثورة الإسلامية الخمينية في إيران. والمغزى الأعمق، بالتالي، هو أنّ تقليب الوظائف الكبرى الحساسة بموجب إرادة عليا خامنئية حاسمة، أو اتباعاً لمنظومة "شورى" مرتهَنة لمَن يشاء تجميل الحياة السياسية الداخلية الإيرانية؛ تتكفل أيضاً بتكييف شرائح عريضة في عمق الشارع الشعبي، بين موالاة أو معارضة أو منزلة بينهما: إزاء سلطة المرشد الأعلى وآيات الله والمجموعة الحاكمة، سواء تقاطعت الأجندات أو تباينت، في مسائل السياسة الداخلية الاقتصادية والمعيشية وقضايا الحقوق والحريات والعقيدة، كما في مسائل السياسة الخارجية وموقع إيران الدولة وإيران الثورة الإسلامية.

بذلك، وبعيداً عن أيّ منطق صوري، كانت إقالة/ استقالة لاريجاني سنة 2007 واستبداله بالدبلوماسي الشاب سعيد جليلي، الذي كان يومئذ نائب وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأمريكية، بمثابة الجزء الظاهر من جبل جليد غائص عميقاً في لجة اصطراع التيارات، داخل هرم السلطة في طهران. ويومذاك، كما عند كلّ واقعة مماثلة في الواقع، لم يكن المراقب العادي في حاجة إلى إشارة دراماتيكية من أحمدي نجاد الرئيس الإيراني في تلك المرحلة، الذي قطع زيارته إلى أرمينيا وعاد على عجل إلى طهران؛ أو إلى الرسالة، الدراماتيكية بدورها، التي وجهها 180 نائباً في البرلمان الإيراني إلى خامنئي، للإشادة بفضائل لاريجاني وما حقّق من إنجازات في منصبه السابق… كي يدرك طبيعة ذلك الطور من التصارع في قمّة هرم القرار الإيراني.

وليس عجيباً، بل لعله المبدأ الصانع للمسارات الوحيدة القارّة في قلب منظومة الدولة العميقة المتحكمة بأقدار الكتلة الأكبر وزناً من جبل الجليد إياه، أن لاريجاني كان عند إقالته/ استقالته يمثّل تيار الإصلاحيين (نعم!)؛ وإذْ يعود اليوم، فلأنه نُقل بإرادة أعلى، أو انتقل بإرادة دنيا ذاتية، إلى مواقع اليمين المحافظ، المطالَب بالتشدد والتعنت. وأن يكون ضيق المرشد الأعلى برجل مثل لاريجاني قد بلغ، في سنة 2007، مستوى اعتباره "ليبرالياً" أو "غربياً" أو حتى "إصلاحياً"، إلى درجة استبداله برجل كان ظلّ أحمدي نجاد؛ أمرٌ أرسل إشارات واضحة على مقدار الاحتقان الذي كان يعصف بتركيبة النظام.

ولكن أن يعيده خامنئي إلى المنصب مجدداً، وأن يرسله إلى موسكو وبغداد وبيروت، لا يعزز الإشارات ذاتها فحسب؛ بل يطرح أسئلة جادّة، مشروعة التكهن، حول يمين إيراني محافظ لم يعد متحرجاً من العودة عبر… بوّابات الإصلاحيين، التي تداعت واهترأت أو حتى باتت أثراً بعد عين. الأدهى، وقد يكون الأطرف بالطبع، أنّ تصريحات لاريجاني، في الزعم بأنّ طهران لا تتدخل في الشؤون الداخلية العراقية أو اللبنانية، مقابل صفاقة زملاء له أمثال عباس عراقجي واسماعيل بقائي، أو حتى التصريح الدراماتيكي للنائب اللبناني عن "حزب الله" محمد رعد: "الموت ولا تسليم السلاح ويروحوا يبلطوا البحر"؛ تعكس مظاهر تأزّم خيارات طهران، أكثر مما تنقل حذلقة لاريجاني.

أيّ تبليط، إذن، لأيّ بحار يتوهم لاريجاني أنه يمخر عبابها بعد كلّ الذي جرى للدولة الأمّ الراعية لـ"محور المقاومة"، ومهندسة ومسلّحة ومموّلة أذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ وإذا كان رئيس الوزراء العراقي مضطرّاً، لأنه أصلاً صنيعة "الإطار التنسيقي" وميليشيات إيران وعصائبها، إلى المشاركة شخصياً في مراسم توقيع مذكرة التفاهم مع طهران، وتمكين لاريجاني من وضع إكليل على نصب قاسم سليماني؛ فما الذي كان لاريجاني ينتظره، حقاً، من الرئيس أو رئيس الحكومة في لبنان، أو حتى من نبيه برّي المتعهد السياسي والبرلماني والدبلوماسي لما يُسمى بـ"الثنائي الشيعي"؟ ألا يحقّ للكثيرين أن يساجلوا بأنّ بعض أقصى مغانم لاريجاني، في تبليط بحر لبنان، كان تصريح رئيس مجلس النواب العتيد: "تمهلوا يا إخوان! إيران دولة صديقة للبنان، وستبقى"؟

وإذا كانت سلطات الحكم الانتقالي في سوريا قد منعت طائرة لاريجاني من التحليق في الأجواء السورية، فإنّ أمثولة "إياكِ أعني، فاسمعي يا جارة" لم تكن غائبة عن مهندس ترميم الأطلال الإيرانية في المنطقة؛ هو الذي، قبل أقلّ من شهر سبق انهيار نظام "الحركة التصحيحية"، كان (من موقع كبير مستشاري خامنئي) قد اجتمع مع بشار الأسد في دمشق وأبلغه أنّ طهران "مستعدة لتقديم شتى أنواع الدعم"! ذلك، أيضاً، لأنّ خسران النفوذ الإيراني في سوريا، المباشر أو عبر أمثال ماهر الأسد أو سهيل الحسن وميليشيات وعصائب مذهبية لا عدّ لها ولا حصر، لم يكن نكسة في باحة شرق أوسطية هامّة وحيوية ومحورية في حسابات طهران، فحسب؛ بل كان انطواءً تدريجياً لعقود من أشنع أنساق الهيمنة الإيرانية، السياسية والعسكرية والمذهبية في شرق المتوسط.

وبصفته هذه أيضاً، كمستشار للمرشد الأعلى وقبيل إعادة تدويره لأمانة مجلس الأمن القومي، اجتمع لاريجاني مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، أواخر تموز (يوليو) الماضي؛ ولم يخرج البيان الروسي الرسمي عن اللغة الخشبية الضبابية المعتادة حين تكون اللقاءات الدبلوماسية روتينية أو خالية الوفاض عملياً: "نقل رسالة عن منظور إيران العام حول التطورات الإقليمية، والقضايا الدولية، والعلاقات الثنائية". وأيضاً: "كان اللقاء بنّاءً، تمّت خلاله مناقشة مواضيع واسعة النطاق، خصوصاً العلاقات الثنائية في ضوء التطورات الراهنة على مدار الأسابيع القليلة الماضية".

والإنصاف يقتضي التشديد على أنّ الحكومة اللبنانية لم تبلّط أيّ متر في بحر بيروت، حتى الساعة؛ وقانون "الحشد الشعبي" في العراق دونه خرط القتاد، ولم تُبلّط بعدُ بقعة في شواطئ بحر العرب؛ إلا أنّ رحلات لاريجاني من موسكو إلى بغداد فبيروت لم تفلح، حتى الساعة على الأقلّ، في وضع حجر أساس واحد يستعيد ماضي نفوذ طهران الإقليمي؛ الذي انحسر أو انطوى أو انقضى…

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن