بصمات

"الأخلاق التواصليّة" عند هابرماس: مشروع لا يشمل مجازر غزّة!

إن كانت الحداثة حسب هابرماس "مشروعًا لم يكتمل بعد"، فإنّ واقع المقولات الأخلاقية الغربية مشروع نظري لم يتحقّق بعد، خصوصًا فيما يتعلّق براهنية الصراع العربي الإسرائيلي. مناسبة هذا الحديث موقف يورغن هابرماس رفقة بعض المفكرين إزاء حرب إسرائيل وحركة المقاومة "حماس"، حيث شكّل هذا التصريح صدمة عند البعض ووجده البعض حُجّة للتأكيد على التحيّز الغربي ولا أخلاقيته، كما اعتبره البعض الآخر مناسبة لتكثيف خطاب الاستغراب أو مطية لتفريغ البُعد الإيديولوجي الديني اتجاه الغرب الثقافي.

بالمجمل، انخرط العديد من المفكرين العرب في حملة الغضب هاته، خصوصًا إثر ترجمة المفكر المغربي محمد لشهب "بيان التضامن" من الألمانية الى العربية، مما ساهم في انتشار هذا البيان وتصاعد ردود الأفعال الغاضبة، وقد وصف لشهب الأمر بالصدمة خصوصًا وأنّ الرجل أمضى أكثر من عشرين سنة في رحاب الفكر التواصلي لهابرماس، فهل هي فعلًا سقطة فيلسوف؟

لقد اتخذ كل من فيلسوف الأخلاق التواصيلة يورغن هابرماس وفيلسوف التسامح راينر فورست والمتخصّص القانوني كلاوس غونتر وكذا السياسية نيكول ديتهوف، موقفًا مؤيدًا للتّوجه الإسرائيلي من خلال "بيان التضامن" الذي تضمّن أربع فقرات تناولت ملامح القراءة الحالية للوضع الإسرائيلي الفلسطيني.

وفي هذا الصدد، يهمّنا الوقوف عند النقاط التي أثارها البيان من خلال:

ــ استهل البيان بالتعليق على "حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول" بما هو واقعة خارج الصيرورة التاريخية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث عبّر عنها بالقول "الوضع الحالي"، والواقع أنّنا إزاء عمَلية تجزيئية ترمي لتوصيف الواقعة خارج سياقها، مما يُبرّر نعت حركة المقاومة بالإرهاب والوحشية غير المُبرّرة، بل يضفي بالمقابل نوعًا من المعقولية على مبدأ التضامن مع الحق الإسرائيلي في الدفاع عن نفسها، إذ هو حقّ لا خلاف حوله بالنسبة لهابرماس، وبالتالي، كلّ ما تقوم به إسرائيل يدخل ضمن المقبول والمسموح به، ما دام أنّها تواجه منذ النازية تهديدًا بـ"الإبادة الجماعية" التي تعلنها حسب هابرماس حركة "حماس".

فجوة تاريخية تعكس استمرارية "الهولوكست" كحجاب ذهني في إثارة أيّ موضوع يخصّ اليهود في الساحة الألمانية

ويشدّد على ذلك بالقول: "كيفما كان الحال، فإنّ تصرّفات إسرائيل لا تبرّر بأي حال من الأحوال ردود فعل معادية للسامية"، الأمر الذي يجعل من عمليات الإبادة التي تنهجها إسرائيل على قطاع غزّة تصرفًا مقبولًا ولا يُبرّر بأي حال من الأحوال كره اليهود أو الاحتجاج عليهم.

ــ عقدة الشعور بالذنب الألماني اتجاه اليهود: لنقل إنّ هناك فجوة تاريخية تعكس استمرارية "الهولوكست" كحجاب ذهني في إثارة أيّ موضوع يخصّ اليهود في الساحة الألمانية، فهي محاولة للحصول على الصفح الخاص بالتاريخ الألماني إزاء اليهود عبر منح إسرائيل أحقية في خلق ضحية ثانية أو أحقيتها في ممارسة العنف لأنها مضطهدة أينما حلّت واستطاعت ذلك.

كأنّ إسرائيل تمثل الوجود المقدّس في الضمير الألماني لليهودي الذي يتعرّض للاضطهاد والتنكيل أينما وُجِد، مما يسقط الفيلسوف الألماني في بركة الخلط التاريخي بين الراهن والماضي الألماني ويخلق بالمقابل تفوّقًا عرقيًا لليهود على غرار النازية.

ــ تحمل الفقرتان الثالثة والأخيرة من "مبادئ التضامن" ازدواجية، أو لنقل إنّها تكرّس خيار الكيل بمكيالين، حيث تضمّنت تباينًا واضحًا في عملية قراءة الوضع الحالي بين إسرائيل وفلسطين: فـ"مجزرة حماس نيّتها في إبادة الحياة اليهودية بشكل عام"، مما يجعل أي يهودي هو هدف مثل هذه الحركات، هو يوازي بشكل ضمني بين النازية وحماس، كما أنه قرأ الراهن بواقعة الهولوكوست، في حين اكتفى بالإشارة الى الطرف الآخر بالقول "رغم القلق على مصير السكان الفلسطينيين"، إذ الروح الديموقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية حسب هابرماس، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقّان حماية خاصّة، إلى درجة أنّ البيان يصرّح بأنّ "الحقوق الأساسية في الحرية، هي حقوق غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي".

التاريخ الثقافي، سواءً كان شرقيًا أو غربيًا، لا يُناصر دومًا القضية العادلة

والحال أنّه إذا كان الأمر يخصّ الجميع، فكيف يستثني أولئك الذين يقيمون في ألمانيا من هذا الحقّ، فالحركات الاحتجاجية التضامنية للمهاجرين في قلب ألمانيا تُعتبر معاداة للسامية، الذي عبّر البيان عنهم بعبارة "أولئك الذين يقيمون في ألمانيا"، كأنّ الإقامة هنا لا تمنح صفة المواطنة أو حقوق الجنسية الألمانية، لأنّهم أجانب، لهذا يمكن طردهم بدعوى معاداة السامية، فأين هو الحق في التعبير والتواصل في الفضاء العمومي الذي نظّر إليه هابرماس في جلّ كتبه؟

لم ينتقد هابرماس طيلة مسيرته الفكرية التوجهات السياسية لإسرائيل، مما يجعلنا نقف عند موقفين من أعماله ورؤاه النظرية: موقف هابرماس المُنظّر الأخلاقي لفلسفة التواصل، مقابل هابرماس المواطن الألماني المُعبّر عن رؤيته المحدودة بسقف الأثر الذي أنتجته تبعات "الهولوكوست" على ذهنية الألماني، لذلك فالتاريخ الثقافي، سواءً كان شرقيًا أو غربيًا، لا يُناصر دومًا القضية العادلة، لكنه لا يُمثّل التوجّه الأوحد والوحيد أيضًا، إذ القضية الفلسطينية قد ناصرها على مدى التاريخ العديد من الفلاسفة مثل سارتر، برتراند راسل، حنا أرندت وجيل دولوز.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن