تقدير موقف

هدنة غزّة.. و"صراع الإرادات"

بما أنّ السياسة صراع إرادات، فالحرب صراع إرادات سياسية بوسائل عسكرية. وبعد نحو 50 يومًا من العدوان الاسرائيلي على غزّة، الذي يُعتبر أطول حروب "إسرائيل"، وبعد ارتقاء نحو 15 ألف شهيد بأكثر من 50 ألف طن من القنابل خلّفت نهرًا من الدماء والدمار، أنتج "صراع الإرادات" هدنة تناوب على إعلانها كل من "إسرائيل" وأمريكا والمقاومة الفلسطينية، ومصر وقطر كوسيطين، الأولى لاعتبارات جيوسياسية، والثانية لاعتبارات إيديوسياسة.

هدنة غزّة.. و

ويرجّح أنّ مصر وقطر ساهمتا مع رأي عام أمريكي متضامن مع الفلسطينيين في سحب جو بايدن جزئيًا من قيادة الحرب على غزّة إلى موقع "عرّاب" الهدنة، لتكتمل حلقات التواصل والضغوط المتناسبة على كيان الاحتلال والمقاومة معًا.

بعد تصريحات أمير قطر والرئيس المصري حول الهدنة، بدا الزمن لدى الرئيس الأمريكي وكأنه تجمّد منذ "طوفان الأقصى" ما دفعه ومن خارج السياق الهدنوي للاعتقاد أنّ "أحد الأسباب التي دفعت حماس إلى القيام بهجوم 7 أكتوبر، أنهم كانوا يعرفون أنني كنت أعمل بشكل وثيق مع السعوديين.. لإحلال السلام في المنطقة من خلال الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود"، وكأنّه يقرّ بتخريب "حماس" مشروع التطبيع الذي هو في أساسه مشروع أمريكي، ولهذا استحقّت الرجم بأمّ القنابل.

نتنياهو يحاول حجب التغيير العميق الذي أصاب العالم برمّته جرّاء همجية كيانه المأزوم وجوديًا

وفي محاولة خبيثة للتخفيف من غضب السعودية تجاه "جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين" عزف نتيناهو خلال لقائه مالك منصّة "X" إيلون ماسك، على موجة بايدن ذاتها قائلًا: "هزيمة حماس ستمكنّنا من التوصّل لاتفاق تطبيع مع السعودية". وإذا كان نتنياهو متيقّنًا من موقف السعودية، فلماذا سحبت "إسرائيل" دعمها للمملكة في استضافة معرض إكسبو 2030؟ أغلب الظنّ أنّ نتنياهو بات كمن يغرس رأسه في الرمال، ويحاول حجب التغيير العميق الذي أصاب العالم برمّته، وليس فقط العالم العربي والإسلامي، جرّاء همجية كيانه المأزوم وجوديًا لأكثر مرّة في تاريخه.

توازيًا مع كلام بايدن ونتنياهو التطبيعي، ثمّة من استخفّ ومنذ اليوم الثاني لـ "طوفان الأقصى" بفكرة أنّ "كتائب القسّام" تعمّدت إجهاض مشروع نتنياهو للشرق الأوسط الجديد الذي عرضه في الأمم المتحدة، ثمّ جعله "الطوفان" فكرة بعيدة المنال، وسبق وعرضناه في مقال "الطوفان الاستباقي وخريطة نتنياهو!".

وإذ نعود بالذاكرة لأيّام "الطوفان" الأولى، ومسارعة بايدن وإدارته لمنع انهيار "إسرائيل" ورفدها بآلاف أطنان الأسلحة والذخائر ومليارات الدولارات، فضلًا عن الغوّاصات والأساطيل البحرية والجوية، وبملاحقهم الاوروبية الذين أخذوا يردّدون كالببغاوات سرديّات نتنياهو عن قاطعي رؤوس الأطفال والتوحّش والإرهاب و"داعش" التي ألبسوها للمقاومة الفلسطينية. ونتوقف عند الهدنة الممدّدة التي رضخت لبنودها واشنطن قبل تل أبيب، بعدما تكفّلت مظاهرات ملايين الأوروبيين في باريس وبرلين ولندن في إسكات "كومبارس الببغاء الثلاثي" ماكرون وشولتس وسوناك، وإبعادهم عن مشهدية الهدنة والوساطة، بفعل الرأي العام العالمي المتصاعد الذي ضاعفه موقف رئيسَيّ وزراء إسبانيا وبلجيكا أمام معبر رفح، تزامنًا مع إلغاء بلدية برشلونة علاقاتها مع كيان الأبارتيد وجرائم التهجير والإبادة الجماعية "إسرائيل".

سردية نتنياهو بسيطرة جيشه على شمال غزّة دحضتها "القسّام" باختيارها "ساحة فلسطين" مكانًا لتسليم المحتجزين

"صراع الإرادات" انعكس وبقوة أيضًا في إقرار الهدنة وبنودها، ففيما كانت أهداف ترويكا الحرب (نتنياهو-غالانت-غانتس) تدمير "حماس" وتحرير الرهائن بالقوة، تجلّت أهداف "حماس" بتحرير الأسرى وإدخال قوافل المساعدات والوقود إلى قطاع غزّة. بهذا، لم يعد مجالًا للشكّ بفشل وإخفاق "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، مقابل تحقيق حركتَيّ "حماس والجهاد" لأهدافهما المعلنة. و"صراع الإرادات" هذا دفع "القسّام" لتعليق الهدنة في يومها الثاني بسبب عدم التزام "إسرائيل" بمعايير أقدمية الإفراج عن الأسرى، وبدخول المساعدات شمالي غزّة، الأمر الذي رضخ له نتنياهو بعد تدخل الوسيطين المصري والقطري وعرّابهم الأمريكي.

في اليوم الثالث للهدنة، جال نتنياهو شمالي غزّة لترسيخ سردية جيشه بالسيطرة عليه والتي سرعان ما دحضتها "القسّام" باختيارها "ساحة فلسطين" وسط مدينة غزّة، مكانًا لتسليم الصليب الأحمر الدولي دفعة المحتجزين الثالثة وسط احتضان شعبي فلسطيني مهيب ضاعف من رمزية الحالة الاستعراضية التي تعمّدتها "القسّام وسرايا القدس" في القيادة والسيطرة التي تعزّزت دلالاتها بالإفراج الرابع والخامس عن المحتجزين من جنوبي القطاع، وتطايرت كبرقيات غير مشفّرة لكل المنشغلين في البحث عن مآلات اليوم الثاني لما بعد "حماس".

أمّا قنبلة عمليات التبادل المدويّة برمزيتها، فتكمن في إصرار "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي تردّد إمساكها ببعض "الرهائن الإسرائيليين الفرنسيين"، على الإفراج عن المناضل اللبناني جورج ابراهيم عبدالله المعتقل منذ 39 عامًا في فرنسا، بطلب أمريكي، لأسباب "إسرائيلية".

الصورة الأبلغ ضمن صراع الإرادات، كانت في مدن الضفة الغربية (بيتونيا والبيرة ورام الله والقدس..) وهي تستقبل أسيراتها وأطفالها الأسرى بكل معاني الفرح الممزوج بالألم والمعمّد بدماء شهداء غزّة، رغم تضييق سلطات الاحتلال ومنعها مظاهر الفرح بتحرير الأسرى الذين في غالبيتهم العظمى لا ينتمون لحركتَيّ "حماس والجهاد"، لكن المحرّرات والمحرّرين رفعوا أعلام فلسطين والمقاومة الفلسطينية وهتفوا بحياة محرّرهم محمد الضيف.

إذن، لم تستطع "إسرائيل" تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة، فاندفعت تحت ضغط "الشارع الإسرائيلي" أيضًا إلى منصّة التفاوض التي نصّبتها المقاومة الفلسطينية حول المحتجزين والأسرى، ما يشي بأنّ زمام المبادرة لم يزل في أيدي المقاومة، الأمر الذي يعمّق إحساس كيان الاحتلال بالإهانة الاستراتيجية ويحرمه من "شبهة نصر"، ما ضاعف بعد 7 أكتوبر المجيد من طعم الهزيمة النفسية التي تمأسست عليهما الحركة الصهيونية.

ومن أساليب الحرب النفسية حاليًا، اختزال ساسة الكيان وجنرالاته لقادة المقاومة الفلسطينية بشخص رئيس "حماس" في غزّة يحيى السنوار، واهتمامهم بتضخيم رمزيّته وزعامته والمساهمة في روايات الغموض حوله مذ كان سجينهم، وانتهاءً بقوله لمحتجزين في أحد الأنفاق "مرحبا بكم، أنا يحيى السنوار، وأنتم هنا بأمان لن يحدث لكم شيء"، توازيًا مع سعي استخباري حثيث، بحيث يؤدي اغتياله لإصابة مؤيّديه والفلسطينيين عامة بانتكاسة وإحباط كبيرين، ويمنح "إسرائيل" صورة النصر التي تفتقدها. وربما فات قادة الاحتلال أنّ السنوار والضيف والعجوري وغيرهم، هم، قادة جدد، وسبقهم كثيرون، من غيفارا غزّة والجعبري وعيّاش والزوّاري إلى أحمد ياسين وأبو عمّار.

نجاح "صفقة التبادل الكبرى" سيتوّج بإنزال نتنياهو عن شجرة التصعيد والأهداف المضخّمة

خلال الهدنة الثانية الممدّدة ليومين، ثم الثالثة ليوم، إفساحًا في المجال أمام إطلاق محتجزين وأسرى جدد، يرجّح انطلاق المساعي لوقف إطلاق النار وشرطه الجوهري الحديث عن تسوية تزامنًا مع تصاعد الكلام عن "حلّ الدولتين" خصوصًا بعد مقتل 3 فلسطينيين بالرصاص في أمريكا لأنهم يرتدون الكوفية، واعتبار بايدن أنّ "حلّ الدولتين السبيل الوحيد لضمان الأمن على الأمد الطويل للفلسطينيين والإسرائيليين".

ويبدو أنّ انقسام "الحزب الديمقراطي" حول "إسرائيل"، توازيًا مع ضغوط رأي عام أمريكي متصاعد في تضامنه مع الفلسطينيين وفي سخطه على الإدارة الأمريكية وتلويحه بمعاقبة بايدن انتخابيًا، قد دفع واشنطن إلى تغيير مقاربتها وهذا ما تفسّره دعوة عضو مجلس الشيوخ كريس ميرفي "المشرّعين الأمريكيين للنظر في ربط المساعدات لإسرائيل بامتثالها للقانون الدولي"، وأيضًا كلام مستشار الأمن القومي جاك سوليفان عن "المساعدة المشروطة لإسرائيل"، والأهم انخراط مدير المخابرات الأمريكية وليم بيرنز في مفاوضات الدوحة مع نظرائه المصري والقطري والاسرائيلي حول صفقة التبادل الكبرى التي سيتوّج نجاحها بإنزال نتنياهو عن شجرة التصعيد والأهداف المضخّمة، ويهدّد فشلها باستئناف "إسرائيل" عدوانها لتحقيق أهداف عجزت عنها في تفكيك المقاومة وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وهو مخطط سيكون إفشاله رهن بتمسّك القيادة المصرية بموقفها، وعدم قبولها بما انقلبت على مرسي بسببه!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن