إنّها خريطة بنيامين نتنياهو لـ"الشرق الأوسط" التي منذ أن رفعها في الأمم المتحدة لاغيًا من تضاريسها كلّ أثر فلسطيني من الجليل إلى رام الله وغزّة وضمنًا القدس، تبدّى مشهد الإنفجار الكبير جليًّا واضحًا. وأعترف بأنّ خيالي لم يقدني إلى سيناريو "طوفان الأقصى"، بل إلى بحر من الأشلاء والدمار حتى يطابق نتنياهو خريطته الإفتراضية واقعيًا في لحظة التطبيع الأكبر بين "إسرائيل" والسعودية.
بخبث مدروس، رفع نتنياهو خريطته، بعد إعلان ولي العهد السعودي "أنّ بلاده تقترب أكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، للإيحاء وكأنّ الخريطة محل توافق بينه وبين السعودية، إلى أن جاء طوفان السبت المجيد، وبعثر أوراق المنطقة والعالم.
خريطة نتنياهو تقضي بتهجير فلسطينيي غزّة إلى سيناء، وفلسطينيي رام الله إلى الأردن.. وتصفية القضية
ما فعله "الطوفان" إذن، هو تهشيم نسخة نتنياهو للشرق الأوسط، المطابقة لنسخة واشنطن بعد سقوط "صفقة القرن"، لكن بعيدًا عن فوارق "نُسخ" الشرق الأوسط، لا ينكر جاحد أنّ عملية "القسّام"، وضعت خريطة نتنياهو في ثلّاجة الانتظارات الطويلة، كما وضعت العرب في موقف إحراجي غير مسبوق.
خريطة نتنياهو إيّاها تقضي بتهجير فلسطينيي غزّة إلى سيناء، وفلسطينيي رام الله إلى الأردن. ما يعني أنّ في الأمر، ليس تجاوزًا لموقع الأردن ومكانة مصر الإقليمية فحسب، وإنّما تصفية للقضية الفلسطينية على حسابهما وحساب الحقوق الفلسطينية معًا، بحسب الرئيس المصري الذي كظم غيظه تجاه القُطب غير المخفية في "الممرّ الاقتصادي" الذي بيّنت مساراته البحرية والبرية استثناءه لمصر وتركيا.
إذن، شرق أوسط جديد، بخطط استراتيجية رسمها مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان الذي تباحث مع ولي العهد السعودي بشأن "الممرّ" الذي ما استولدته واشنطن إلّا لمحاصرة مشروع "الحزام والطريق الصيني"، كما عرضناه في مقالتنا "التطبيع المزدوج وحرب الطريق والممرّ".
بعدما تحدّث جو بايدن عن "الشرق الأوسط"، الذي نظّر له شيمون بيريز، ولوّح بخريطته نتنياهو، بات الكلام عن استهداف طوفان الأقصى لهذا "الشرق الأوسط الإسرائيلي" منطقيًا ومشروعًا لأبعد الحدود، وأصبح السُعار الأمريكي، بلسان جو بايدن ووزير خارجيته بلينكن الذي وصل تل أبيب شاهرًا هويته اليهودية، مفهومًا. وبدون التباس انخرطت أمريكا عسكريًا وسياسيًا وشائعاتيًا بجانب "إسرائيل" التي بات كرسيها محل تناوب وزيري الخارجية والدفاع وقادة الجيش الأمريكيين، وجلس عليه بايدن شخصيًا الذي سبقته بوارجه وفرقاطاته وقوة "دلتا" كاستجابة سريعة لحماية "إسرائيل".
على خطى أمريكا، وبشكل تناسبي سارت كبرى دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما لو أنّ وقائع "الطوفان" جرت في واشنطن أو لندن وبرلين وبروكسل وباريس، فكشفوا زيف الكلام عن الوسيط النزيه أمريكيًا، وبهتان ادعاء أقانيم العدالة والحريات وحقوق الانسان أوروبيًا.
قابل الحلف الأمريكي الغربي مع إسرائيل، حلف "محور المقاومة" المتردّد بقيادة ايران التي جال وزير خارجيتها في المنطقة ليردّ على رسائل الردع الأمريكية، وأعلن أنّ "محور المقاومة قد ينفّذ بعض الأعمال الإستباقية قبل أن تتساقط قنابل الفوسفور في طهران". أمّا المرشد الإيراني علي خامنئي، صاحب عقيدة "الصبر الاستراتيجي"، الذي لطالما ردّد جنرالاته "قادرون على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، فقال "إذا استمرت جرائم الكيان الصهيوني فلن يستطيع أحد أن يوقف المسلمين وقوى المقاومة"، ويقصد هنا "حزب الله" الذي سخّن جبهة الجنوب ضمن مزارع شبعا المحتلة، ثم وسّع عملياته العسكرية والالكترونية لتشمل الخط الأزرق تدريجيًا باتجاه حرب إقليمية محتملة، تحذّر واشنطن من الانخراط فيها.
"بنج" الطوفان تحوّل إلى نوع من "كوما" سياسية عاصفة بالكيان وأحزابه ومستوطنيه
إقليميًا، كانت أحداث غزّة محلّ لقاء وزير الخارجية التركي مع الرئيس المصري في مقاربة متقاربة بين أنقرة والقاهرة حيال التطورات المتفجّرة. وكانت مدار بحث بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني، ما دلّل أنّ القوى الإقليمية الكبرى، مصر، تركيا، السعودية وايران، محلّ تشاور، الأمر الذي عزّز مبادرة مصر بالدعوة لقمّة إقليمية دولية السبت، استبقها الرئيس المصري بطرح صحراء النقب بديلًا تهجيريًا للفلسطينين عن سيناء، حتى لا ينفجر السلام مع "إسرائيل".
دوليًا، برزت حركة مشاورات لافتة للرئيس الروسي مع قادة دول المنطقة فحذّر من "إنزلاق الوضع الى حرب إقليمية واسعة". وإذا كانت حرب أوكرانيا محلّ تمايز بين روسيا والصين، فالعدوان على غزّة والفلسطينيين محلّ توافق بينهما كما حصل في مجلس الأمن، وهذا ما تمّ بحثه وتنسيق مقارباته بين بوتين ونظيره الصيني على هامش "قمّة الحزام والطريق" في بكين.
بالعودة إلى غزّة، فحتى بعد تشكيل حكومة الحرب، بدا قادة الكيان وجنرالاته الكبار، أشبه بمريض أجريت له عملية جراحية، دون أن يستفيق بعدها، لأنّ "بنج" الطوفان تحوّل إلى نوع من "كوما" سياسية عاصفة بالكيان وأحزابه ومستوطنيه، والأهمّ، بأجهزته العسكرية والأمنية الذين كما فشلوا في الكشف الإستباقي للاختراق، فشلوا أيضًا في التشخيص اللاحق لحجم الاختراق الذي أحدثته المقاومة الفلسطينية بصبر وطول أناة، ما مكّنها من تنفيذ طوفان الأقصى بعزيمة واقتدار.
سيمرّ وقت غير قصير، قبل فكّ "شفرة" ملحمة "الطوفان" توازيًا مع حرب الصورة التي ظلّت ملكًا حصريًا لرجال "القسّام" و"سرايا القدس" وهم يتوغّلون في غلاف غزّة محمّلين بالأسرى والغنائم من معدّات وأسلحة ومعلومات حسّاسة، كتلك التي انتزعوها من مقرّ الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في "فرقة غزّة".
كلّنا يعلم ما فعلته آلة القتل الصهيونية المعزّزة بالبوارج الأمريكية والمدجّجة بقنابل الفوسفور والتدمير للمباني والبيوت والشوارع في قطاع غزّة حتى توقفت عدّادات المياه والكهرباء والاتصالات وكل وسائل الحياة عن العمل.
أمّا الذي فعله "الطوفان"، فكما نعلم أنّه ولسنوات مضت، لطالما ردّد زعيم "حزب الله" مقولته الشهيرة "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، وطيلة هذه السنوات لم يتمكّن نصرالله من برهنة مقولته، فظلّت، وشعارات كثيرة، معلّقة في الهواء. لكنّ "كتائب القسّام" في السابع من أكتوبر برهنت كيف أنّ "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" بطريقة لم يرتقِ إليها خيال كتّاب سيناريوهات الأحلام ومخرجي أفلامها الوثائقية غير القابلة للتخيّل.
طوفان الأقصى، كان عملًا استراتيجيًا هائلًا، ومن خارج صندوق التوقعات، فقد كسر فوبيا السيطرة والهيمنة والتفوّق "الإسرائيلي"، وضرب كل الترتيبات الهجينة لمسخ القضية الفلسطينية، وتحويل الفلسطينيين لمجرّد لاهثين وراء تحسين ظروف معيشتهم تحت الحراب "الإسرائيلية".
"الطوفان"، انتشل ليس فقط الشعب الفلسطيني من إحباطه رغم المجازر، وإنّما انتشل معه الشباب العربي من الإنسياق للتسليم بالهزيمة، كما ومن فايروسات التطبيع الذي ينظّر له البعض بوصفه شرط التنمية والرخاء والسلام للشعوب العربية.
"الطوفان"، أثبت أنّ العرب يقتدرون إذا ما قرّروا، ولهذا كان هدير مظاهرات الشباب العربي في لبنان والعراق وسوريا وتونس والجزائر والمغرب وقطر وليبيا وموريتانيا مدويًا في قوّته المنطلقة من قوّة فلسطين بوصفها بوصلة الأمّة ومصدر دينامياتها الأصيلة، والقضية التي لا تسقط بتقادم الزمن.
المنطقة فوق فوّهات البراكين وترتفع إحتمالية الحرب الواسعة التي يتهيّب الجميع خوضها
"الطوفان"، دلّل بوضوح أنّ "إسرائيل" كمريض الكورونا الذي لا يستطيع الحياة بعيدًا عن مضخّات أوكسجين البوارج المزدوجة المهام: طمأنة إسرائيل وحمايتها من جهة، وتوجيه رسائل الردع لـ"حزب الله" وإيران من جهة أخرى. وبدت فلسطين بين فكّي كمّاشة: فكّ "إسرائيلي" يحتل فلسطين، وفكّ إيراني يُمسك بالمقاومة. أمّا العرب، فعاجزون عن إدخال رغيف خبز وحبّة دواء الى غزّة.
طوفان الأقصى، وجّه رسالة قوية للدوّل التي أبرمت أو ستبرم "إتفاقيات سلام" رغم أنّها لم تخض بتاريخها حربًا، ولا تربطها حدود مع "إسرائيل"، رسالة تدعوها إلى مراجعة موقفها خصوصًا وأنّ من يلوذون بها توسّلًا لحمايتها، تحتاج الحماية أكثر منهم.
تقنيات "الطوفان" البسيطة والخطيرة، ستكون مصدر إلهام للطامحين بالوصول الى السلطة والحالمين بالتغيير ولو بانقلاب عسكري في دول تحول أسوار قصورها العالية دون نجاح المحاولة، لكنّ "مظلّات الطوفان" فتحت الآفاق.
أخيرًا، تبدو المنطقة وكأنّها فوق فوّهات البراكين، حيث ترتفع إحتمالية الحرب الواسعة التي يتهيّب الجميع خوضها.
وما زال عصف الصواريخ مستمرًا..
(خاص "عروبة 22")