كل اعتراف عربي بالكيان الصهيوني يزيده رغبة في التمدّد والتوسّع، وكل اندفاع من دول المنطقة الوازنة بالتسليم بـ"حق إسرائيل في إقامة علاقات طبيعية مع جيرانها"، في ظل تفسّخ النظام العربي وتراجع قواه الرادعة يُقصّر الطريق على تحقيق حلم الكيان بإقامة دولته "من النيل إلى الفرات".
تلك المعادلات ليست نظريات دعائية تُحلّق في الفضاء، فوقائع التاريخ القريب لا تزال شاهدة على ما جرى بعد الزيارة المشؤومة التي قام بها الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى القدس في 19 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1977.
كانت إسرائيل قبل إقدام السادات على تلك الخطوة، تتحسّب لردود الفعل العربية تجاه أي اعتداء تقوم به إزاء الفلسطينيين أو أي قُطر عربي آخر، لكن بعد خطابه في الكنيست وتحت راية السلام "عربدت دولة الاحتلال في الضفة والقطاع والقدس والجولان والعراق ثم غزت لبنان غزوًا كاملًا تحت شعار تأمين الجليل"، بحسب ما أشار وزير الخارجية المصرية الراحل إسماعيل فهمي.
فهمي الذي استقال احتجاجًا على إعلان السادات عن تلك الزيارة، قال في مذكّراته "التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط" إنّ "إسرائيل نجحت عن طريق المعاهدة في تأمين جبهتها الجنوبية الملاصقة لمصر حيث أصبحت سيناء منزوعة السلاح.. ولكن أهم شيء كان يعني رئيس وزرائها مناحم بيجن هو تجريد نظام الأمن العربي من فاعليته، لأنّ مصر كانت محور هذا النظام".
أطلقت كامب ديفيد يد الصهاينة في المنطقة بعدما خرجت مصر من المعادلة واهتزّ النظام العربي بكامله
بصياغة أخرى، قال وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل الذي استقال هو الآخر قبل ساعات من توقيع الاتفاقية إنّ تلك المعاهدة "ستؤدي إلى عزلة مصر وستسمح للدولة الصهيونية بحرية مطلقة في ممارسة سياسة القتل والإرهاب في المنطقة مستخدمة السلاح الأمريكي كمخلب لها".
أعطى السادات تعهدًا للكيان الصهيوني من جانب واحد بأنّ مصر لم تعد طرفًا في الصراع، وهو ما استغلّته إسرائيل لتحقيق هدفها والاستفراد بجيرانها الأضعف بعد أن صارت مصر تقف موقف المُتفرّج أو الوسيط في أحسن الأحوال.
"لو أنّ السادات لم يقطع على نفسه هذا التعهّد ولو أنّ مصر كانت لا تزال جزءًا من معادلة موازين القوى في الشرق الأوسط لما جرؤت إسرائيل على أن تدفع مائة ألف من جنودها لغزو لبنان.. إنّ عزلة مصر عن بقية العالم العربي كان أوضح إشارة تلقاها شارون لكي يدفع دباباته على الطريق إلى بيروت"، تلك هي النتيجة التي وصل إليها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل بعدما تحوّل ما حذّر منه إلى واقع.
في كتابه "خريف الغضب"، يشير هيكل إلى أنه بعد توقيع السادات للمعاهدة لم يكن في استطاعة بقية العرب أن يوقفوا إسرائيل لأنّ "قيام أكبر الدول العربية بعقد صلح منفرد معها أدى في الواقع ليس فقط إلى تعطيل سلاح هذه الدولة بل وأدى أيضًا إلى نزع سلاح الآخرين".
أطلقت كامب ديفيد يد الصهاينة في المنطقة، بعدما خرجت مصر من المعادلة، ولأسباب لا تخفى على أحد اهتزّ النظام العربي بكامله وصار كل طرف فيه يبحث عن مصالحه الضيّقة ويعيد ترتيب أولوياته بمعزل عن باقي الأقطار.
وما أن اتسعت الشروخ حتى تسرّبت إسرائيل بتخطيط أمريكي لتجرر دول المنطقة إلى مصيدة الاعتراف والتطبيع، وبالتوزاي تغلغلت أجهزة استخبارات واشنطن وتل أبيب في المجتمعات العربية مستهدفةً ضرب الجبهة الداخلية لمعظم الدول التي قد تشكّل خطرًا مستقبليًا عليها وعلى هدفها الاستراتيجي بالهيمنة على مقدرات الشرق الأوسط.
أعطت كامب ديفيد الحجة والمبرّر لدول عربية أخرى حتى تعقد اتفاقيات جديدة مع إسرائيل، وإن كانت تلك الأخيرة بدأت بوتيرة ساخنة، وسعى أصحابها إلى القبول بالعدو باعتباره أحد "أبناء العم" العائدين بعد غياب طويل، فيما ظلّ التطبيع المصري الذي ناهز الـ45 عامًا باهتًا باردًا محصورًا في الأطر الرسمية الحكومية.
تخيّل المطبّعون الجدد، أنّ إسرائيل قد تكون رأس حربة في حلف أمني عسكري يؤمّن لهم الحماية من خصمهم اللدود إيران، الذي بات يمثّل تهديدًا لمصالحهم واستقرار دولهم، حتى فاق الجميع على ما جرى في "طوفان الأقصى" التي كشفت أنّ "ابن العم العائد" غير قادر على حماية نفسه من كتائب مقاومة غير نظامية لا تملك سوى إمكانيات محدودة من العدة والعتاد.
كيف لأنظمة بلادنا أن يقبلوا بإقامة علاقات طبيعية مع عصابة إرهابية؟
انطلقت "طوفان الأقصى" وكأنها رياح خريف عاتية، تطيح بكل القواعد التي سعت الولايات المتحدة وحليفتها في الإقليم إلى ترسيخها وتحويلها إلى واقع، وترفع الغطاء عن موبقات عدو تبجح قادته خلال المعركة الأخيرة وكشفوا عن كل خططهم ونواياهم ليس تجاه الفلسطينيين فحسب بل ضد العرب جميعًا.
لا يمكن أن يكون لـ"كامب ديفيد" وأخواتها محلًا من الأعراب، بعد أن أثبتت الأحداث الأخيرة أنّ إسرائيل لا تصلح كصديق أو حليف ولا حتى دولة، فما جرى من إرهاب وترويع وتدمير وعمليات قتل ممنهج لا يخرج عن دول بل من عصابات اعتادت الإجرام، فكيف لأنظمة بلادنا أن يقبلوا بإقامة علاقات طبيعية مع تلك العصابة الإرهابية؟.
على مصر أولًا، التي اجتمع مجلس نوابها خلال شهر واحد مرتين لمناقشة ما يجري على حدودها، أن تبادر بمراجعة اتفاقية كامب ديفيد، ليس فقط احتجاجًا على المجازر التي تُرتكب ضد أبناء شعبنا الأعزل في غزّة ولا لقطع الطريق أمام مخطط التهجير، ولا لأنه لا يجوز لها أن ترتبط بعلاقات مع عصابة إجرامية، لكن لأنها لو فعلت ذلك فستدفع غيرها من المطبّعين الجدد إلى السير على الطريق ذاته، حينها قد يعود توزان الردع وحينها قد تعود مصر إلى موقعها الطبيعي المستحق في الإقليم.
(خاص "عروبة 22")