في المقدمة تقول الباحثة إنّ المشرق غنيّ بالأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية مما انعكس في الأعمال التشكيلية التي استجابت للأحداث وعبّرت عنها من خلال لوحات جسّدت مواقف سياسية وأخرى أيديولوجية. وكل ذلك لم يكن بعيدًا عن المؤثرات الغربية، خصوصًا أن العديد من الفنانين كانوا أوفدوا إلى بلدان أوروبا من أجل الدراسة في معاهدها الفنية.
وبالرغم من أنّ الفن التشكيلي قد ارتبط بالاتصال الثقافي بالغرب، واندرج في الإطار العريض للحداثة الثقافية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى أنّ لهذه البلدان تاريخًا عريقًا يمتدّ على الآف السنين، وانبعاث التاريخ القديم كان له أثره ليس فقط في تناول موضوعات تتصل بتلك الحقبات، ولكن في بعض الملامح التشكيلية في مجال النحت أو اللوحة، ولكن الأحداث المعاصرة مثل القضية الفلسطينية والثورات التي شهدها كل بلد، ثم الصراع مع الاستعمار والنضال من أجل الاستقلال، كانت الموضوعات التي استحوذت على جزء من جهود الفنانين خلال القرن العشرين.
هذه الموسوعة الصغيرة هي بمثابة بانوراما مختصرة لكل بلد من البلدان حيث نستطيع أن نتعرّف إلى الحركة الفنية التشكيلية من خلال أحداث معيّنة واتجاهات فكرية ظهرت في فترات محدّدة من القرن العشرين، كما أنّ هذه الموسوعة استطاعت أن تقدّم نبذاتٍ وافيةً عن أبرز الفنانين في هذا البلد أو ذاك.
الجزء الأول خصّصته للعراق الذي عرف الحداثة الفنية بعد الحرب العالمية الثانية. حيث تعرّف الفنانون العراقيون إلى فنانين بولونيين وانكليز. وقد برزت أسماء مثل: جواد سليم وشاكر حسن وكاظم حيدر وضياء العزاوي الذين استوحوا في أعمالهم مفاهيم الحرية والاستقلال، وعرف العراق مدارس فنية مثل الانطباعيين وبعدهم الرؤية الجديدة ثم جماعة الظل و14 تموز الخ. وعام 1970 تأسّست جماعة البعد الواحد وعلى رأسهم شاكر حسن آل سعيد.
ويبدو أن الأحداث السياسية كان لها أثرها، وأبرز الأعمال على الإطلاق جدارية جواد سليم (نصب الحرية 1958) وهي وحدة فنية من ثمانية أمتار ونصف المتر. ومن خلال استعراض أعمال الفنانين العراقيين نجد موضوعات مثل السجين وتل الزعتر (فائق حسن) وحرب قذرة (عمر مهر الدين) والفلاحون (شاكر حسن) وفلسطين (رافع الناصري) وملحمة الشهيد (محمود صبري) وتتكرر لدى الفنانين العراقيين لوحات تمثّل الشهادة والشهيد بما في ذلك نصب الشهيد (تصميم سادان أسعد وفتاح الترك).
وفي الجزء الثاني تتناول الفن التشكيلي في لبنان الذي عُرف مُبكرًا، وإن بدأ بخدمة أغراض دينية كنسية. ومنذ ثلاثينات القرن العشرين نجد أعمالاً تشكيلية متأثرة بموضوعات فكرية وتاريخية مثل لوحة معاوية يدشن الأسطول لمصطفى فروخ 1938، وحصان النهضة 1945، ومعركة عنجر لقيصر الجميل 1956. وقد عرف الفن التشكيلي نهضة بارزة في ستينات القرن العشرين مع افتتاح الغاليريهات وبروز أسماء عديدة. وخلال تلك الفترة ازدحمت الأحداث السياسية وخصوصًا المتمحورة حول فلسطين. واستحوذت الحرب في لبنان على العديد من الأعمال لدى جان خليفة وعبد الحميد بعلبكي ووهيب بتديني إلى موسى طيبا التي أتت الحرب عام 1976 على منزله ومحترفه، وهو الذي عاد ليرسم مجزرة قانا التي ارتكبها الإسرائيليون. كما عبّر سمير خداج وعادل قديح وجميل ملاعب في لوحاتهم عن الأحداث التي شهدها لبنان في سنوات الحرب في السبعينات والثمانينات. ويمكن القول إنّ كل التشكيليين اللبنانيين قد تأثّروا بالواقع السياسي لبلدهم وصولاً إلى حرب تموز 2006.
وتخصص فصلاً للفنان الثائر عارف الريس الذي سيطرت على أعماله الموضوعات السياسية منذ ثورة الجزائر إلى الثورة الفلسطينية إلى الحرب الأهلية، فنجد في أعماله عناوين النزوح والكرنتينا وكمال جنبلاط. وتبرز أعمال حسن جوني الذي أعطى لبيروت حيّزًا واسعًا من أعماله كما خصّص للأحداث السياسية أيضًا أعمالاً مميزة مثل ذكرى أوتيل ديو والأسرة الجنوبية.
وتخصص الجزء الثالث من الموسوعة لسوريا التي عرفت أكثر من سواها من بلدان المشرق فنانين استلهموا التاريخ العربي، فخصّص توفيق طارق، وهو أحد رواد الفن التشكيلي في سوريا، لوحة لمعركة حطين. أما عبد الوهاب أبو السعود فكان مناضلاً شارك في الثورة السورية 1925، وجسّد في أعماله المعارك العربية وأبرزها معركة اليرموك. ومن الرواد سعيد تحسين الذي رسم في لوحة جدارية انتصار صلاح الدين الأيوبي. أما عاصم زكريا فقد رسم عام 1964 لوحة تجسّد معركة ميسلون الشهيرة.
وتقول المؤلفة رويدا الرافعي أن الحركة التشكيلية في سوريا تأثرت خلال مسيرتها بمجموعة من المؤثرات الفكرية وأبرزها الاتجاه القومي الذي أكّد على نضال الشعب العربي وقضاياه الكبرى. وهكذا نجد تأثير الأحداث وخصوصًا النكبة الفلسطينية ثم العدوان الثلاثي على مصر، ومثال على ذلك لوحة أدهم إسماعيل بورسعيد- المظلي الميت! ثم جاءت نكسة حرب حزيران فرسم نذير نبعة لوحة نابالم ثم خزيمة علواني الحصان المهزوم وأدهم إسماعيل الفدائيون الفلسطينيون. تقول المؤلفة: إنّ أدهم إسماعيل هو أحد أبرز رموز حركة الفن الحديث في سوريا الذي أراد الخروج من التأثير الغربي والتأسيس لفن عربيّ الملامح. وتوالت الأعمال التشكيلية على وقع الأحداث السياسية، فجسّد برهان كركوتلي أعمالًا كثيرة للقضية الفلسطينية. كما أنّ ثورة 8 آذار وجدت تعبيراتها في أعمال تشكيلية وكذلك حرب تشرين 1973 ورسم فاتح المدرس أعمالاً عن المقاومة الفلسطينية. وامتدّ التأثير السياسي إلى أعمال النحت وفن الملصق. وتخصّص الفصل الثاني بسوريا لاثنين من أبرز الفنانين السوريين لؤي الكيالي الذي تقول عنه إنه كان يجد في الرسم تعبيرًا عن غضبه وضيقه بعالم لا يرى جمالاً في حياة الناس العاديين. ومن أبرز أعماله: مشهد الحرب والبائع الصغير والثكالى وبائع الجوارب وماسح الأحذية... أما يوسف عبدلكي الذي يجسّد في أعماله التوق إلى الحرية ومقاومة الاستبداد، وقد سجن لسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي وقد غادر سوريا عام 1981 إلى المنفى الباريسي، تقول المؤلفة إن أعماله التي عرضت في دمشق 1995 رغم غيابه كانت بمثابة تصفية حساب مع السجن وترسباته.
وفي الجزء الرابع من الموسوعة تخصّصه المؤلفة لفلسطين حيث تقسم بحثها إلى مراحل النكبة 1948 حيث برز الفنان إسماعيل شموط الذي جسّدت أعماله التهجير واللجوء ثم مرحلة المقاومة 1956-1967، مرحلة النكسة 1967، مرحلة الانتفاضة 1987-1993، الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000-2005، وتتناول أعمال توفيق عبد العال وكامل المغني وعصام بدر وتمام الأكحل ونازك عمار وجمانة عبود.. وقد عبّرت أعمالهم عن التهجير والأمل والثورة. وتخصص حيّزًا وافيًا للفنان مصطفى الحلاج، الذي لُقّب بشيخ الفنانين والذي استخدم الرمزية والأساطير في أعماله واستخدم الحبر الصيني والحفر على الخشب كتقنيات تشكيلية، وتشير إلى البعد الميثولوجي في أعمال الحلاج. كما تتناول الفنان سليمان منصور وهو من أبرز الفنانين الفلسطينيين الذين خصّصوا أعمالهم لفلسطين وشعبها، وأبرز أعماله اللوحة الشهيرة لعجوز يحمل القدس والمسجد الأقصى فوق كتفيه. وتخلص المؤلفة إلى أنّ الموضوع السياسي لم يبرز في أي دولة من دول المشرق العربي بقدر ما برز في التجربة الفلسطينية المعاصرة.
الجزء الأخير من الموسوعة خصصته للأردن الذي عرف بروز الحركة الفنية في أواسط القرن العشرين وتطورت خلال العقود اللاحقة، ومن بين أبرز الفنانين التشكيليين في الأردن رفيق اللحام ومهنا الدرة وتوفيق السيد وسامية طوطق زرو ومحمود صادق وإبراهيم أبو الرب وعبد الرؤوف شمعون، إضافة إلى النحاتين كرام النمري ومحمد بشناق ومنى السعودي. ومثل التشكيليين الفلسطينيين فإن الفنانين الأردنيين سيطرت على أعمالهم القضية الفلسطينية. وتخصّص المؤلفة حيزًا مسهبًا لاستعراض تجربة الفنان أحمد نعواش الذي تميّز باستقلالية أسلوبه، أما عدنان يحيي فقد كرّس كل أعماله للقضايا الإنسانية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ولديه أعمال عن مجزرة صبرا وشاتيلا وحرب غزّة ومخيم جنين وغيرها.
تميزت أجزاء موسوعة رويدا الرافعي بشموليتها ومرجعيتها الواسعة، ففي نهاية كل جزء سجّلت المراجع التي اعتمدتها باللغات العربية والأجنبية. والموسوعة مرجع هام وفريد في موضوعه. وقد صدرت عن منشورات مؤسسة شاعر الفيحاء – سابا زريق الثقافية.
(خاص "عروبة 22")