بقوة الصور والحقائق تبدّدت أية محاولات لشيطنة "السنوار" ودمغه بالإرهاب. تكشّفت بالوقت نفسه الفوارق الشاسعة بين الطريقة التي عومل بها الأسرى والرهائن الإسرائيليين وحفلات التعذيب والتنكيل التي يشتكي منها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية.
"يا رجل، أي والله، حياة دقيقة بعزّة وكرامة ولا ألف سنة زي الزفت تحت أحذية جنود الاحتلال".. بدت تلك العبارة، التي وردت في النص الروائي "الشوك والقرنفل"، أقرب إلى كشاف يضيء العمل كله.
عندما نُشرت الرواية لأول مرة عام 2004، لم يكن المؤلف اسمًا معروفًا في الحياتين الأدبية والسياسية. عرّف نفسه على الغلاف الخارجي لروايته شبه المجهولة بـ"الأسير يحيى السنوار- أبو إبراهيم".
أبدى الراوي محبة غامرة للجنود المصريين.. بدا ذلك التفاتًا رمزيًا لحضور الجندي المصري في ذاكرة غزّة
الرواية كُتبت تحت أقبية السجون الإسرائيلية، حيث قضى 23 عامًا متصلة منذ العام 1988 حتى الإفراج عنه عام 2011، من ضمن 1200 أسير فلسطيني محرّر مقابل الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط".
إنه الرجل نفسه الذي يقود المقاومة الفلسطينية الآن في أخطر مواجهة عسكرية غير متماثلة مع إسرائيل، ويجري بندية وكفاءة صفقات تبادل للأسرى والرهائن.
"إنّ قصتنا قصة فلسطينية مريرة لا مكان فيها لأكثر من حب واحد.. وعشق واحد".
في مقدّمة روايته كتب بالحرف: "هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصة شخص بعينه، رغم أنّ كل أحداثها حقيقية".
يكاد يلامس النص الروائي تجربة حياته، وطبيعة شخصيّته، وينير المحطات الرئيسية التي مرّ بها وأثّرت فيه.
تحاكي الرواية في زمن جديد ومختلف عالم الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني رغم اختلافهما السياسي والأيديولوجي، حيث ينتمي الأديب الراحل إلى اليسار.
ينطوي اسم الرواية نفسه على محاكاة أخرى وتأثّر واضح بأديب العربية الأكبر نجيب محفوظ صاحب عبارة "الشهد والدموع"، التي اتخذها المؤلف التلفزيوني أسامة أنور عكاشة عنوانًا لواحد من أشهر مسلسلاته.
تبدأ أحداث الرواية شتاء 1967، قبل نكسة 5 يونيو واحتلال غزّة، التي كانت تحت الإدارة المصرية.
الراوي من عمر المؤلف نفسه، الذي ولد عام 1962. كلاهما في الخامسة من عمره.
ينتمي بطل الرواية إلى بلدة "الفالوجا" في الأرض المحتلة منذ عام 1948 قبل أن تضطر بترهيب السلاح للهجرة القسرية إلى غزّة.
لا تنتمي عائلة "السنوار" إلى "الفالوجا" بل إلى "مجدل عسقلان". كان اختيار المؤلف لـ"الفالوجا" مقصودًا لاستكمال الصورة الدرامية والتاريخية، حيث حوصرت بتلك البلدة الكتيبة السادسة من الجيش المصري، التي كان جمال عبد الناصر رئيس هيئة أركانها.
في عام 1967 أبدى الراوي، الذي يكاد أن يكون "السنوار" نفسه، محبة غامرة للجنود المصريين.. وكيف أنهم كانوا ينادون على الصبية من عمره ليعطونهم بعض الحلوى.
بدا ذلك التفاتًا رمزيًا لحضور الجندي المصري في ذاكرة غزّة.
بتفاصيل إنسانية تطرّقت الرواية إلى الحياة في المخيمات كبشر لا كملائكة.
"الناس في المخيمات مثل كل الناس، رغم بؤسهم وشقائهم، يحيون ويعشقون ويعيشون الحياة كما غيرهم".
بصورة ما تلامس تلك النظرة الإنسانية في عمقها ما أنشده الشاعر الفلسطيني الأكبر محمود درويش:
"ونحن نحب الحياة.. إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
في روايته تكتشف إجابته على سؤال: لماذا وكيف نشأ التيار الإسلامي بمخيمات غزّة؟
حاول بقدر استطاعته أن يكون موضوعيًا لا متحزّبًا في رصده للظواهر والمساجلات التي كانت تجري.
بعض المساجلات دخلت في مناطق محظورة أساءت إلى التيار الإسلامي المحافظ خاصة عما إذا كان قتلى حركة "فتح" في المواجهات مع إسرائيل شهداء أم لا؟!
يستلفت الانتباه هنا أنّ الشقيق الأكبر للراوي من "فتح". وهو نفسه وصف طبيعة العلاقة بين "فتح" و"حماس" بـ"الأخوة الأعداء".
وبعض المساجلات تناولت الموقف من "عبد الناصر" على خلفية صدامه مع "الإخوان المسلمين".
يقول الراوي إنه استمع من داخل عائلته وخارجها لتحذيرات متكرّرة من الاستماع لخطب مجموعة من "الإخوان" لأنهم ضد "عبد الناصر" وضد الوحدة العربية ولا يعترفون بمنظّمة التحرير الفلسطينية.
تتسع نظرته إلى مكوّنات المجتمع الفلسطيني منفتحًا على عالمه العربي وطموحاته في التحرّر والانعتاق والوحدة
لعل الرجل، الذي تعتبره إسرائيل الآن عدوّها الأول ويتعهّد قادتها بالوصول إليه والنيل من حياته، أن تتسع نظرته إلى مكوّنات المجتمع الفلسطيني منفتحًا على عالمه العربي وطموحاته في التحرّر والانعتاق والوحدة العربية رغم ما ألمّ بها من إجهاض فهي تظل طوق إنقاذ أخير لقضية عمره.
وفق وثيقة 2017 فقد تحلّلت الحركة من صلتها الأيديولوجية والتنظيمية بـ"الإخوان المسلمين". هذه مسألة مهمة للغاية في ضبط البوصلات أمام التحديات المقبلة.
ساعدته تجربته في السجن الطويل على اكتساب مهارات تنظيمية وأمنية صعد بفضلها إلى موقع الرجل الأول في حركة "حماس".
"هكذا بدا السجن يتحوّل إلى مدرسة.. يعلّم فيه المتعلّم غيره، ويتدرّب فيها عديم الخبرة على المناظرة والتفكير السياسي".
كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 نقطة جوهرية في تصوّره لمستقبل القضية الفلسطينية.
"إننا شبعنا وارتوينا حتى تماما الرضا من هزيمة إسرائيل".
"كانت الحرب نقطة تحوّل استراتيجية في مشاعرنا جميعًا رغم أنها لم تخفّف شيئًا عنا كفلسطينيين".
"اقتنعنا بكل عقولنا أنّ أسطورة إسرائيل وجيشها الذي لا يُقهر قد انهارت أمام عظمة وإرادة الجندي المصري والسوري".
لم تكن مصادفة استلهام 6 أكتوبر/تشرين الأول في التخطيط لعملية "طوفان الأقصى".
غير أنّ الراوي لم يُخفِ صدمته من "المصيبة التي الجمتنا تماما ونحن نسمع المذياع يغطي زيارة السادات للقدس".
بعد عشرين سنة من كتابه روايته "الشوك والقرنفل" قدّر للرجل نفسه أن يحقّق أكبر اختراق بتاريخ القضية الفلسطينية في الخمسين سنة الأخيرة، حيث أحيت من جديد بزخم غير مسبوق، ولعلّها في يوم قريب ترى القرنفل بعد أن أدمتها الأشواك.
(خاص "عروبة 22")