أمّا ميكيافيلي فيُحدِّدُ طريقتَيْن للحكم: إحداهما بواسطة القانون، والأخرى عن طريق القوة والخداع. ولمّا كانت الطريقة الأولى غير كافيةٍ عادةً لتحقيق الأهداف السياسية، فإنّه يدعو السلطة إلى اللّجوء للطريقة الثانية كما يطلب من الأمير الجمع بين قوة الأسد وخداع الثعلب قائلًا: "إذا كان الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الفِخاخ، وكان الثعلب غير قادر على الدفاع عن نفسه أمام الذئاب والأسود، فيتعيّن على الأمير أن يكون ثعلبًا ليواجه الفخاخ والحبائل، وأن يكون أسدًا ليُخيف الذئاب ويُرهبها".
الحركة الصهيونية اعتمدت على الخداع والتضليل منذ انبعاثها
القوة وحدها غير كافيةٍ في السياسة والحرب، ولذلك على الحاكم أن يلجأ إلى أساليب الخداع والكذب والتضليل. لذلك يتطلّب من السياسي امتلاك المهارات والإمكانيات البشرية والمادّية لممارسة الخداع ضدّ العدو بهدف الانتصار عليه. وفي الحرب الأخيرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران و"حزب الله" من جهة أخرى، تواتر استهجان جمهورٍ واسعٍ من العرب وحتى السلطة الإيرانية استخدام الطرف الأوّل خِدعًا إعلاميةً وديبلوماسيةً مُتنوعةً للتمويه على إيران (وقبلها على "حزب الله")، وذلك قُبيل تنفيذ عدوانهم العسكري على أراضيها ومنشآتها، واستهداف قادتها العسكريين وعلمائها النوويين. فبعد أن أوحى الرئيس دونالد ترامب للعالم بأنّه وافق على هدنةٍ لمدة أسبوعَيْن للسماح لإيران باستئناف المفاوضات، قام بقصف مواقعها النووية، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الإيراني للقول إنّ ترامب "خان الأمانة وخان المفاوضات وخان الشعب الأميركي".
وإن كانت الخدعة أسلوبًا قديمًا مارسته الدول ضدّ أعدائها بهدف الانتصار عليهم، فإنّ الحركة الصهيونية اعتمدت على الخداع والتضليل، منذ انبعاثها، وتواصل ذلك بعد قيام الدولة الإسرائيلية في حروبها ضدّ الدول العربية والمقاومة الفلسطينية، وذلك بالاعتماد على "المفاجأة الصدمة". فعندما خطّطت، بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، للهجوم على مصر عام 1956، روّجت بأنها تعتزم الهجوم على الأردن، فحشدت إسرائيل قواتها على مقربةٍ جدًّا من الحدود الأردنية، وصعّدت عملياتها الانتقامية ضدّ الأردن غير أنها هاجمت مصر. كما تمكّنت إسرائيل من تدمير غالبيّة طائرات سلاح الجو المصري والسوري، في بداية حرب 1967، باستخدام خديعةٍ بسيطةٍ قام بها سلاح الجو الإسرائيلي، فأعلنت قبل الهجوم عن تدريباتٍ لطائراتها، وسادت حالة استرخاء في الطرف العربي، وقد سُمّيت هذه الخديعة في أرشيفات الإسرائيليين "موكيد"، وتعني بالعِبرية "نقطة تركيز".
حرب السادس من أكتوبر تُعتبر نموذجًا لخدع الحرب
مارس العرب بدورهم الخداع ضدّ إسرائيل، من ذلك خدعة حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول، التي تُعتبر نموذجًا لخدع الحرب، إذ نجحت القيادة السياسية وأجهزة المخابرات، في الفترة التي سبقت الحرب، في اتخاذ مجموعةٍ من الخُطوات بهدف تضليل العدو. من ذلك، أنّها صوّرت للقيادات السياسية للعدوّ، أنّ الدولة المصرية لا تفكر في الحرب، بل رفعت القاهرة وقتَها شعار "اللّاحرب واللّاسلم" موازاةً مع ترويج إشاعات بأنّ بطاريات الصواريخ المضادّة للطائرات التي بحوزتها تعاني من نقصٍ كبيرٍ في قطع الغيار وبأنّها لا تزال غير قادرةٍ على المبادرة إلى شنّ حرب. كما اعتمدت القيادة العسكرية لغة إشارة غير مفهومةٍ لم يستطع أحد فهمها، حتّى جنود الجيش المصري أنفسهم، وتمّ استعمالها في الحرب حصريًّا، كما تمّ استخدام خراطيم المياه لهدم "خط بارليف" الذي ظنّت إسرائيل أنّه يحتاج إلى تكنولوجيا لا تمتلكها مصر، ثم حصل ما حصل.
بدورِها، مارست حركة "حماس" قبل عملية "طوفان الأقصى" بعضًا من الخداع، ومن ذلك شنّ الحركة سلسلة هجماتٍ في الضفّة الغربيّة من شمالها إلى جنوبها، كالهجوم الذي قُتل فيه مستوطنان في أغسطس/آب 2023، وقتل مستوطنة في هجوم قرب الخليل في الشهر ذاته، في الوقت الذي امتنعت عن المشاركة في عملياتٍ عدّةٍ خاضتها "حركة الجهاد الإسلامي" و"سرايا القدس" والتي كان آخرها في مايو/أيار 2023 أي قبل انطلاق عملية "الطوفان" ببضعة أشهر، ما مثّل علامةً فارقةً في قراءة العدو لدوافع الحركة ونواياها الحقيقية. وهو الأمر الذي دفع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إصدار بيانٍ حول هذه المزاعم قال فيه: "لقد تشاركنا في تقييم المعلومات الواردة من جميع الأجهزة الأمنية بأنَّ حماس ليست مهتمةً فعلًا بالتصعيد وأنَّها مهتمة بالتوصل إلى حلّ مع إسرائيل بشكلٍ ثابت"، وقد ذهبت تقديرات الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى حدّ الادّعاء بأنَّ "حماس قد تمّ ردعها"، إلّا أنّها فوجئت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بما لم تكن تتوقّعه.
الأطراف المُتحاربة تعتمد مبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة" والمهمّ بالنسبة إليها الانتصار
لقد تطوّرت أساليب الخداع في حروب القرن الحادي والعشرين وتنوّعت، ولم تَعُد تقتصر على الدول المتقدّمة، بل استُخدمت حتّى من دولٍ أقلّ تطورًا ولدى منظمات المقاومة وحتى لدى المجموعات الإرهابية، وأصبح الخداع أكثر دقّةً وفاعليّة. وعلى الرَّغم ممّا يثيره الخداع في الحروب من أسئلة قِيَمِيَّةٍ وأخلاقيةٍ، إلّا أنّ ذلك لم يَعُد ذا شأنٍ عند الأطراف المُتحاربة التي تعتمد مبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة" والمهمّ بالنسبة إليها الانتصار على عدوّها.
(خاص "عروبة 22")