ثقافة

لَمْ يتناقضْ الفيلسوف: "الفلسطينيون إرهابيون"

إنّ تجاهل يورغن هابرماس للجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون في فلسطين طيلة قرن تقريبًا، وإعراضه عن حقيقة احتلال الأرض وتهجير الشعب، وتركيزه على ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023، جعل الكثير من المهتمّين بالفلسفة والفكر والحداثة والتنوير والعقلانية في حيرة وحسرة. لكن هل المشكل في هابرماس أم في المتلقين العرب؟ سأعود للسؤال لاحقًا.

لَمْ يتناقضْ الفيلسوف:

يقول عبد الكبير الخطيبي في تمهيده لمناقشة "الصهيونية واليسار الغربي": "لماذا يصرون على القضاء على الشعب الفلسطيني؟ ... ولماذا لا يُلتفت إلى عملية الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون؟ ألا يسود الصمت حول الجرائم الصهيونية، بينما تُفضح المقاومة ويُشنع ما تقوم به؟ فهل يرجع الأمر إلى رد فعل لما قام به النازيون إزاء اليهود؟ هل يعود الأمر إلى تحويل الشعور بالذنب؟ وهل يتم باسم قيم النزعة الإنسانية؟". إن التفكير في مثل هذه الأسئلة من جديد يمكن أن يساعدنا في فهم موقف هابرماس: دوافعه وغايته. والأهم أنه يمكن أن يساعدنا في أن نعي ذواتنا، وأن تجاوز القراءة المنبهرة المبشّرة إلى القراءة الناقدة المفسّرة.

لنعد إلى السؤال: هل المشكل في هابرماس أو في المتلقين العرب؟ إنّ موقف هابرماس السلبي من المقاومة الفلسطينية ليس فيه أي تناقض، فهو يتبنّاه ويصرّح به منذ 20 سنة على الأقل. فهابرماس يعتبر المقاومة الفلسطينية إرهابًا وليست حركة تحرّر، ففي حوار له نُشر سنة 2003، يقول الفيلسوف: "الإرهاب الفلسطيني إرهاب من الطراز القديم، ... فهو يتمحور حول القتل وإبادة الأعداء، ولا يستثني النساء والأطفال، ... وهذا ما يجعله مختلفًا عن الإرهاب الذي يظهر في صيغة شبه عسكرية، في معارك حرب العصابات التي ميّزت الكثير من حركات التحرّر الوطني".

مواقف هابرماس المسجّلة في سياق دعمه لإسرائيل والصهيونية بدأت منذ سنة 1968

في المقابل لم يُسجَّل عن هابرماس أي موقف ناقد لإسرائيل، بالعكس ظلّ مساندًا لها علنًا أو بالصمت المريب، كما هو السائد في أغلب الأوساط الثقافية الغربية الأوروبية، وبالتحديد أبرز أعلام مدرسة فرانكفورت التي ينتمي إليها هابرماس، مثل: هوركهايمر أدورنو ماركوز. ربما يكون ذلك للشعور بعقدة الهولوكوست، والتي ربما يعتقد هابرماس أنها تملي عليه نوعًا من الالتزام التاريخي اتجاه إسرائيل.

فمواقف هابرماس المسجّلة في سياق دعمه لإسرائيل والصهيونية بدأت منذ سنة 1968، لما عارض الحركة الطلابية اليسارية خوفًا من أن تتحوّل إلى عداء لإسرائيل، كما وقف بشدة سنة 1986 في وجه المؤرخ أرنِست نولته لما طالب بإعادة النظر في تاريخ الهولوكوست، وفي سنة 2012 انتقد غونتر غراس لما ذكر في قصيدة له أنّ النووي الإسرائيلي يهدّد السلام العالمي، وقال في مقابلة مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية ما معناه أنّ: الألمان من جيله هو وغراس لا يليق بهم انتقاد إسرائيل. وفي موضع آخر من المقابلة نفسها لما سُئل عن رأيه في السياسة الإسرائيلية رد قائلًا: إنّ مواطنًا ألمانيًا من جيلي ليس من شأنه تقييم سياسة إسرائيل.

إذن هابرماس لديه موقف ثابت في دعم إسرائيل، وغض الطرف عن كل عيوبها وجرائمها، بصفته مواطنًا أوروبيًا وألمانيًا، ومن منطلق المركزية الغربية الأوروبية التي تعتبر إسرائيل امتدادًا لها، ويجب عليها دعمها سياسيًا وأخلاقيًا، وهابرماس نفسه يقول إنّ: "النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي ما زال يستعر في قلب العالم العربي، إنما نشأ إلى حد ما، في قلب أوروبا".

ولما دعم هابرماس الحرب على العراق سنة 1991، لم يكن ذلك من أجل الكويت، بل لأنّ صدّام حسين هدّد إسرائيل بالسلاح الكيميائي، فما يهم هابرماس بصفته أوروبيًا وألمانيًا هو حماية إسرائيل. كما أنّ معارضته للحرب على العراق سنة 2003 يمكن أن تفهم في ضوء الحرص على مكانة أوروبا، وخوفًا من التفرّد الأمريكي بالشأن الدولي. وعليه فإنّ الموجّه الأساسي لمواقف هابرماس السياسية هو كونه أوروبيًا وألمانيًا، ولم يدّعِ قط خلاف ذلك، ولم يكن هابرمس إلا كذلك، منذ كان مراهقًا في شبيبة أدولف هتلر.

المشتغلون بالشأن الفكري يتعاملون مع الفلاسفة بانبهار يعمي عن أي عيب معرفي

وعودًا إلى سؤالنا الأول: هل المشكل فينا أو في هابرماس؟ الظاهر أنّ المشكل فينا، وتحديدًا المشتغلين بالشأن الفكري، إما لأنهم لا يتحلّون بالجدية الفكرية والموقف النقدي، ولذلك يتعاملون مع الفلاسفة بانبهار يعمي عن أي عيب معرفي. أو لأنهم بسبب من حسابات غير علمية لا يبرزون من مواقف الفلاسفة وأفكارهم إلا ما يمكن توظيفه لغايات أيديلوجية وسياسية ضيّقة. وفي كلا الحالتين إذا علم المجهول أو انكشف المستور أصيب الجميع بالإحراج.

والواقع أنّ مواقف هابرماس السياسية لا تنقص من قيمته الفلسفية، وفي المقابل مكانته الفلسفية لا تعمي، ولا ينبغي لها ذلك، عن أغلاطه السياسية والفكرية. المشكلة أننا نتعامل بكثير من المبالغة بل السذاجة أحيانًا في القبول أو الرفض. لا يوجد فيلسوف في فراغ: لكل فيلسوف سياقه الاجتماعي والتاريخي، وله انتماء حضاري وجغرافي واجتماعي وقيمي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن