عندما توصلت إسرائيل وحركة حماس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بدأ سريانه يوم 24 نوفمبر 2023 لمُدة 4 أيام قابلة للتجديد، أُطلِق عليه هُدنة إنسانية مؤقتة، وهو التعبير الذي استخدمه الرئيس الأمريكي في بداية الحرب للدعوى إلى هدنات إنسانية مؤقتة دون وقف شامل لإطلاق النار، بدعوى أن ذلك يخدم حركة حماس.
هذا في الوقت الذي دعت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها بتاريخ 27 أكتوبر 2023 إلى هدنة إنسانية فورية ودائمة ومتواصلة تفضي إلى وقف القتال. وكان من الطبيعي أن يرفض الفلسطينيون التعريف الأمريكي للهدنة الإنسانية، ويشترطوا الوقف الشامل للقتال خلال أيام الهُدنة وهو ما قبلت به إسرائيل.
يسود بين أساتذة القانون الدولي استخدام تعبيرين: الأول وقف إطلاق النار، والثاني الهدنة. يُشير الأول إلى وقف جميع العمليات العسكرية بين أطراف القتال سواء بين دول، أو بين دول وفاعل من غير الدول، يتم عادة باتفاق بين الطرفين المُتحاربين من خلال مفُاوضات مباشرة أو غير مُباشرة قد يسهم فيها وتسهلها وساطة أطراف أُخرى، وهو ما تم في حالة اتفاق الهُدنة الذي تم بوساطة مصرية قطرية أمريكية.
ومن أجل احترام قواعد وقف إطلاق النار، فإن الاتفاق المبرم بين أطراف القتال عادة ما يشمل: تحديدا لمعنى وقف إطلاق النار ومجاله الجغرافي وبدأ سريان العمل به، والإجراءات أو التصرفات التي تعتبر انتهاكا لوقف إطلاق النار، وقواعد رصد التزام الطرفين بتنفيذه، وتحديد من يقوم بمهمة مراقبة تنفيذ الاتفاق والتدخل لوقف أية انتهاكات في حالة حدوثها.
وقد يتم وقف إطلاق النار بصدور قرار من مجلس الأمن الذي يتولى وفقا لميثاق الأمم المتحدة مسؤولية الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وله حق التدخل وفقا للفصلين السادس والسابع من الميثاق لتحقيق هذا الهدف. ومن أمثلة ذلك، قرارا مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في 11 يونيو 1967، وفي 22 أكتوبر 1973، وقراره بشأن الحرب الإسرائيلية على لبنان في 11 أغسطس 2006. وفي بعض الأحيان، يتم إعلان وقف إطلاق النار بإرادة منفردة من أحد طرفي القِتال أملًا في أن يستجيب الطرف الآخر ويتجاوب مع هذا الوقف.
يتضح من ذلك، أن وقف إطلاق النار هو قرار عسكري بحت لا يرتبط عادة ببنود ذات طابع سياسي، يهدف إلى ضمان وصول الإعانات والإغاثة الإنسانية إلى المدنيين، وتبادل الأسرى والمحتجزين بين الطرفين، وعلاج الجرحى الموجودين في الميدان ونقل جثث الموتى. كما يمثل وقف إطلاق النار فرصة للمقاتلين لالتقاط الأنفاس، وإعادة تجميع القوات، وجمع مزيد من المعلومات عن الخصم.
يشير تعبير الهدنة أيضا إلى وقف إطلاق النار في ميادين القتال، وقد تكون الهدنة عامة بمعنى شمولها لجميع جبهات القتال، أو محدودة تقتصر على جبهات معينة دون أخرى. واستخدم مجلس الأمن تعبير الهدنة العامة في قراره بتاريخ 16 نوفمبر 1948 بشأن الحرب في فلسطين، والذي نص على ضرورة قيام الدول المتحاربة بإعلان هدنة عامة تتضمن إقامة خطوط هدنة دائمة يُمنع تجاوزها. ويتم الوصول إليها عادة نتيجة مُفاوضات بين الأطراف المُتحاربة تنتهي بتوقيع اتفاقية، وقد تكون لفترة محددة أو دائمة. من الواضح إذن أن التعبيرين مُتداخلان ويتقاطعان مع بعضهما البعض، ينتهيان إما باستئناف القِتال أو ببدء مُباحثات للوصول إلى حلول دبلوماسية وسياسية للصراع. ولكن هناك فارق بين وقف إطلاق النار والهدنة، فبعض اتفاقيات الهدنة يكون لها طابع عسكري وسياسي، فتنص اتفاقية الهدنة على أنها دائمة دون تحديد تاريخ لانتهائها، وذلك لإعطاء فرصة لمزيد من المفاوضات للوصول إلى حل للصراع.
من أمثلة ذلك، اتفاقيات الهدنة التي أبرمتها مصر ولبنان والأردن وسوريا مع إسرائيل في 1949 المعروفة باتفاقيات رودس، بوساطة نشطة من مبعوث الأمم المتحدة الدبلوماسي الأمريكي رالف بانش، وحملت اسم الهدنة العامة في حالة الاتفاقيات مع مصر والأردن ولبنان، بينما حملت الاتفاقية مع سوريا اسم الهدنة العسكرية الدائمة.
وضعت هذه الاتفاقيات نهاية للأعمال القتالية العدائية بين الأطراف، وتحديد خطوط الهدنة التي تفصل بين القوات، وجدير بالذكر، أن بانش حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1950 تقديرا لدوره في الوصول إلى هذه الاتفاقيات، ووفقا لنصوصها، أرسلت الأمم المتحدة مراقبين لمتابعة تنفيذ الهدنة، أنشئت هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة، التي تولت الإشراف على احترام أطراف الصراع لبنود الهدنة ورفع تقاريرها إلى الأمين العام، وتعتبر أقدم بعثة أممية لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة.
ومهما طال العمل باتفاقيات الهدنة واستمرار احترام قواعدها بين أطراف النزاع، فإنها لا تمثل انتهاء حالة الحرب بينها، ومن ذلك العلاقة بين لبنان وإسرائيل. ولذلك، فإنه من الناحية القانونية يظل لبنان في حالة حرب مع إسرائيل لأنه لم يتم توقيع اتفاقية بهذا الشأن، ولا يعتد بإبرام البلدين اتفاقية لترسيم الحدود البحرية والتي تمت بوساطة أمريكية وبدون عقد اجتماع مشترك بين الطرفين لتوقيع الاتفاق. فقد حرص رئيس الوزراء اللُبناني على عدم الاجتماع مع نظيره الإسرائيلي لتوقيع الاتفاقية وتم التوقيع من كُل مِنهما مُنفردًا في بلده. وينطبق نفس الحال على العراق الذي لم يبرم أصلا اتفاقية هدنة مع إسرائيل. فحالة الحرب لا تنتهي إلا بإبرام معاهدة سلام صريحة، مثلما حدث بين مصر وإسرائيل بتوقيع معاهدة سلام في 1979، أو بين الأردن وإسرائيل في اتفاقية وادي عربة عام 1994.
("الأهرام") المصرية