صحافة

مأساة غزة وإرث إستراتيجية كيسنجر فى الشرق الأوسط

حسين هريدي

المشاركة
مأساة غزة وإرث إستراتيجية كيسنجر فى الشرق الأوسط

شاءت الأقدار أن يرحل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق عن عالمنا، وقطاع غزة وأهله تحت قنابل جيش الاحتلال الإسرائيلي في عدوان استمر ستة أسابيع راح ضحيته ١٥ ألف شهيد فلسطيني، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، وهذا علاوة على أعداد المصابين إصابات بالغة بلغت ما يقارب الـ30 ألف مصاب.

هذا العدوان الذي يعد الخامس في سلسلة الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ عام الـ٢٠٠٨ هو نتيجة غير مباشرة للإستراتيجية التي اتبعها هنري كيسنجر في الشرق الأوسط منذ بداية السبعينيات، تلك الإستراتيجية التي سعت إلى تحقيق هدفين رئيسيين هما القضاء على النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط من جانب، والعمل على كسر التضامن العربي لتتمكن من فرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط.

وعندما كان مستشارا للأمن القومي بالبيت الأبيض في إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون لم يتجاوب مع الجهود الدبلوماسية المصرية قبل اكتوبر ١٩٧٣ من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي ٢٤٢ الذي يقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية التي كانت احتلتها في يونيو ١٩٦٧ بما في ذلك شبه جزيرة سيناء. ومن ضمن المبادرات المصرية التي لم يتجاوب معها مبادرة الرئيس الراحل محمد انور السادات في فبراير ١٩٧١ والتي كانت تقضي بإعادة فتح قناة السويس أمام الملاحة العالمية مع انسحاب اسرائيلي من الضفة الشرقية للقناة كمرحلة اولى على طريق تنفيذ القرار ٢٤٢.

كان هدف كيسنجر الأساسي هو محاربة الشيوعية والقضاء على الوجود السوفيتي في أنحاء العالم، وبصفة خاصة في المناطق الجغرافية التي للولايات المتحدة مصالح حيويةً فيها كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. ونظرا لظروف معينة سواء تلك المتعلقة بالأوضاع الداخلية في الأقطار العربية او في العلاقات البينية العربية، استطاع كيسنجر ان يحدث خلخلة في التضامن العربي في حرب أكتوبر خصوصاً بعد فرض الحظر البترولي بسبب انحياز الولايات المتحدة والغرب لاسرائيل خلال حرب اكتوبر. هذه الحرب في حد ذاتها كانت اكبرً مفاجأة له، فهو لم يكن يتوقع ان ينجح الجيشان المصري والسوري في شن الحرب بهذه الدرجة من التنسيق والتعاون، والذي مثل اكبر تهديد للهيمنة العسكرية الإسرائيلية في الشرق الأوسط منذ عدوان يونيو ١٩٦٧ وحتى اندلاع الحرب في ٦ اكتوبر ١٩٧٣ . كانت إسرائيل على شفا هزيمة عسكرية لولا تدخله وقرار إدارة نيكسون بإقامة جسر جوي وبحري لتزويد إسرائيل بكل ما تحتاجه لإجهاض الهجوم المصري - السوري المشترك. وقد بلغت قيمة الأسلحة والعتاد الحربي الذي زودت به واشنطن إسرائيل عبر هذين الجسرين ٥٥ مليار دولار بأسعار ١٩٧٣.

وبعد اندلاع الحرب جاء لزيارة مصر والاجتماع بالرئيس الراحل السادات حيث قال له ان الولايات المتحدة لن تسمح للسلاح السوفيتي بالانتصار على السلاح الأمريكي.. وظف كيسنجر حرب أكتوبر ليحقق ثلاثة أهداف, الأول هو الحيلولة دون تحقيق نصر عسكري عربي على إسرائيل. الهدف الثاني هو الوقيعة بين الأطراف العربية التي اشتركت في حرب أكتوبر وفي الحظر البترولى على الدول الغربية. اما الهدف الثالث فهو زعزعة الوجود السوفيتي في الشرق الاوسط كبداية لإخراج الاتحاد السوفيتي نهائياً من المنطقة.

طوال تحركاته الدبلوماسية في الشرق الاوسط بعد انتهاء الحرب بقبول قرار وقف اطلاق النار رقم ٣٣٨ لمجلس الامن الدولي في ٢٢ اكتوبر ١٩٧٣، اعتمد سياسة الخطوة- خطوة في إطار دبلوماسيته التي أطلق عليها آنذاك الدبلوماسية المكوكية، وفي سياقها تم التوصل الى اتفاقية فك الاشتباك الأولى بين مصر وإسرائيل في يناير ١٩٧٤، والتوقيع على اتفاقية شبيهة بين سوريا وإسرائيل في العام نفسه، ثم بعد ذلك بعام ونصف العام اتفاقية فك الاشتباك الثانية بين مصر واسرائيل في سبتمبر ١٩٧٥.

ودبلوماسية الخطوة - خطوة لم تتعامل إطلاقا مع الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما ركزت على المسارات الثنائية في العلاقات العربية - الاسرائيلية، وهو النهج الذي سارت عليه كافة الإدارات الأمريكية اللاحقة حتى اليوم، بالرغم من اتفاقيتي كامب دافيد في سبتمبر ١٩٧٨ تناولت إحداهما مفهوم الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، وكان التفسير المصري - وما زال- ان الحكم الذاتي ولمدة انتقالية خمس سنوات يفضي في نهاية هذه المدة لممارسة الشعب الفلسطيني لحقه الأصيل في تقرير المصير، بينما كان التفسير الإسرائيلي - الصهيونى هو ان الحكم الذاتي لا ينسحب على مسألة السيادة، وانه حكم اداري خالص في جوهره. وبالرغم من التطورات العديدة التي طرأت على ما عرف بعد ذلك بعملية السلام وفي مقدمتها مؤتمر مدريد للسلام في اكتوبر ١٩٩١، وإعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في ١٣ سبتمبر ١٩٩٣ بواشنطن والمعروف باسم اتفاق أوسلو، وكذلك قرار مجلس الامن ١٥١٥ في عام ٢٠٠٣ والذي تبنى مفهوم حل الدولتين.

بالرغم من كل ما تقدم ظلت القضية الفلسطينية بدون حل، وهو ما ادى الى زعزعة الامن والاستقرار في الشرق الأوسط بالصورة التي عاصرها الشعب الفلسطيني وأخذت شكل التوسع في الاستيطان بالضفة الغربية وفرض حصار على قطاع غزة منذ يونيو ٢٠٠٧ بحجة توفير الأمن لإسرائيل، وجاءت هجمات ٧ أكتوبر للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لتبرهن على فشل إستراتيجية هنري كيسنجر في فرض السلام في المسارات الثنائية العربية - الإسرائيلية طبقا للتصورات الأمريكية دون التعامل الجدي مع تنفيذ حل الدولتين على أرض الواقع.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن