بعد هدنة مؤقتة، كنا نراهن على استمرارها، وتناميها لتصبح أساسا لانتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، والوقف الفوري للقتال الدائر هناك، لم تلبث عجلة الحرب أن دارت من جديد، وبإيقاع أكثر ضراوة، فالغطرسة الإسرائيلية لن ترضى بأقل من عشرات الآلاف من الضحايا، وكأن آلة الحرب التي تشنها تسابق الزمن تحقيقا لأرقام قياسية في القتل، معدلات من الدمار الهائل تبدو غاية استراتيجية من جهة، وعلامة على الارتباك من جهة ثانية.
إن ما تصنعه آلة القتل الإسرائيلية في المدن الفلسطينية، والاقتحامات المتواترة، والقصف المكثف الذي طال كل شيء، استهدف الجميع، وقنص المدارس والمستشفيات والعزل والجرحى، والأطفال والنساء. حيث صار الكل في مرمى الجحيم الأرضي الذي تصنعه إسرائيل بإرادة القتل، وهوس الإبادة الجماعية.
لا تموت الشعوب بقرار، ولا تتم تصفية القضايا الكبرى للأمم بوضعها تحت مقصلة القصف اليومي، وكل قضايا التحرر الوطني سقط فيها مئات الآلاف، بل إن هناك تجارب لشعوب سقط فيها ملايين البشر دفاعا عن استقلال بلادهم، وأملًا في نيل الحرية.
ندرك أن القضية الفلسطينية معقدة للغاية، وجزء مركزي في بنيتها المركبة حجم الدعم السابق والحالي الذى تقدمه الحكومات الغربية لإسرائيل، والذي يجعلها في المخيلة الأورو-أمريكية بمثابة شرطي المنطقة الذي يتحتم وجوده من جهة، والذي يحتاج إلى حماية مستمرة من جهة ثانية، خاصة مع آلة الدعاية المزيفة للوعي العام، والتي تقدم إسرائيل بوصفها الدولة المحاطة بعشرات الأعداء، وهي دعاية مضللة، فالأيدي العربية امتدت بالسلام كثيرا، وحل الدولتين الذي يطرحه كل من في المنطقة العربية يعد حلا سلميا بالأساس، وعلى الرغم من منطقيته وعدالته وعقلانيته وتجنيبه الإقليم شرور الحروب المتطايرة والقابلة للاشتعال في أي لحظة كما حالها الآن، إلا أن سيكولوجية التمدد الإسرائيلي ترفض وتماطل، متكئة على الدعم اللا محدود من زاوية، ورغبتها في التوسع الاستيطاني من زاوية أخرى.
إن هناك أسئلة مهمة متعلقة بعدم امتداد الهدنة كما كان مأمولا لها على الرغم من الجهود المقدرة للجانبين المصري والقطري في هذا المسار، وربما تصبح محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات جزءا من التصور الكلي الحاكم لليمين الإسرائيلي، الذي يعتقد في قدرة الحروب على إنهاء الأزمات وليس تفشيها، وتؤمن بعض مكوناته بالمنحى الديني للصراع الدائر، وما ينطوي عليه هذا الفهم من خطورة تحدق بالعالم جميعه.
وهذا جميعه ينبئنا عن أن ما يسمى (فلسفة الحرب)، هذا المصطلح الذي كشف عنه قديما (كارل فون كلاوزفيتز)، الجنرال والمؤرخ البروسي، الذي صنع كتابا مهما يعد مرجعا مركزيا في الفكر العسكري، وأعني كتابه (عن الحرب) - الذي نشرته زوجته بعد وفاته بعام، أي فى سنة 1832م- وفي هذا الكتاب المرجعي لا تحضر الخطط العسكرية وإستراتيجيات القتال فحسب، لكن تبرز بالأساس مرامي الحروب وغاياتها، دوافعها ومبرراتها، بحيث شكل السِّفر الضخم مكونا أساسيا فيما اصطلح على تسميته فيما بعد باسم (فلسفة الحرب) .
ويقدم كارل أداء رفيعا على مستوى الطروح النظرية الخارجة من رحم خبرة عسكرية عززتها مشاركاته القتالية من جهة، وتأملاته الفكرية من جهة ثانية، بدءا من التعامل مع فكرة الحرب بوصفها شكلا من أشكال الوجود الاجتماعي، ومرورا بالتمايزات التي جعلتها حدا فاصلًا بين آليات الدفاع والهجوم، واعتباره الدفاع أصلا في الحرب، ووصولا إلى وعيه الخلاق بجدل السياسي والعسكري، حيث تبدو الحروب وسيلة، بينما السياسة غاية.
ولكن هل تنطبق هذه الطروحات على ما يحدث في فلسطين؟ فى الحقيقة في غزة ليست ثمة حرب بل إبادة جماعية، وليست الحرب هناك وسيلة، بل أصبحت غاية ترمي إلى مزيد من القتل والدمار، وتخريب هذه البقعة من العالم، وإشعال المنطقة من جديد؛ لأن حكومة نتنياهو تفتقد النظر العميق فيما تفعل، وتعتقد أن نجاتها من مساءلة الداخل الإسرائيلي والعالم جميعه تكمن في تحقيق المزيد من القتل بدعوى الانتصار.
إن القتل يورث القتل، والدماء تلد الدماء، والحروب مقصلة العالم التي تعري خزيه، وعجزه، وازدواجيته؛ ولذا فلا بد من إيقاف كل هذا العبث.
("الأهرام") المصرية