تقدير موقف

حرب السودان: جذور تاريخية وتجاذبات دولية

سريعًا، تنحدر الدولة السودانيّة نحو التفكّك والتحلّل، دون أن تنجح الوساطة الأمريكية - السعودية في فرض وقف إطلاق النار، ما دفع طرفي الوساطة لتحميل الجيش السوداني و"الدعم السريع" مسؤولية اختراق الهدنة.

تحلّل وتفكّك، سببهما اندلاع الحرب الإلغائية بين القوّتين العسكريتين الرسميتين، وقد انضمّ اليهما أطراف أخرى. وفيما تصف قيادة الجيش، قيادة "الدعم السريع" بالمتمرّدين. تصف قيادة "الدعم السريع"، قيادة الجيش بالإنقلابيين. فما هي جذور الحرب بين الإنقلابيين والمتمرّدين؟

حرب السودان: جذور تاريخية وتجاذبات دولية

حريٌّ القول، بأنّ شرائح سودانية تستذكر حاليًا، الصراع بين ورثة "الدولة المهديّة"، بعد وفاة رئيسها الإمام محمد المهدي (من قبيلة الدناقلة) الذي لم يزل وخلافًا لاشتراطات ظهور المهدي بنظر أقاربه "المهدي المنتظر"، وبين خليفته عبدالله التعايشي (من قبيلة الجبارات بدارفور) الذي حكم السودان منذ وفاة المهدي عام 1885 لمدة 14 عامًا تخلّلها إنشقاق أقارب وأنصار للمهدي، ليعودوا بعد لجوئهم إلى مصر ضمن جيش إنكليزي لانتزاع الحكم من الخليفة التعايشي الذي قتله السير رجينالد ونجت في "أم دبيكرات" في 24 نوفمبر 1899 وليستعمر الإنكليز السودان بحكم إنكليزي مصري، باسم السودان الإنكليزي، ثم السودان المصري، حتى قرّر البرلمان الإنفصال عن مصر قبل سنة من الاستقلال عن الإنكليز عام 1956.



مقتل التعايشي شكّل عُرفاً بين قبائل الشمال (الدناقلة، جعليين والشايقية) المُستمّد نفوذها وقتذاك من الإنكليز الذين فخّخوا السودان بحكم أقلية قبلية وجغرافية وعددية من 3 قبائل، لأكثرية قبلية وجغرافية وعددية من 573 قبيلة.


عند اندلاع الصراع بين الدولة والحركات المسلّحة، ضمّت حكومة البشير مجاميع من أبناء القبائل العربية في دارفور، إلى قوّات حرس الحدود وقوّات الدفاع الشعبي، لمواجهة الحركات المسلّحة وامتداداتها عبر الحدود. ولتشويه سمعتهم، أطلقت الحركات المسلّحة عليهم تسمية "جنجويد". ولربطهم بتنظيم "القاعدة" وتصنيفهم كإرهابيين، أطلقت الحكومة على الحركات المسلّحة تسمية "تورا بورا". حرب دارفور إذن، هي بين جنجويد وتورا بورا. لكنّ المجتمع الدولي احتضن تورا بورا، وجرّم جنجويد، وأحال البشير إلى الجنايات الدولية.

تخوّفت النخبة الحاكمة، التي يُنسب لها ازدراء غيرها من القبائل، من صعود نجم حميدتي

عام 2013 أسّست حكومة البشير قوات الدعم السريع "قدس"، وضمّت إليها الدفاع الشعبي وحرس الحدود. وبعدما ترأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي) استقطب عناصر من كافة الأقاليم والقبائل. وامتدحت قبائل الشمال أو النخبة النيلية، "الدعم السريع"، لأنها تقاتل نيابة عنها ولتعزيز حكمها. وبوصفها من أبناء دارفور وكردفان.. تتقدّم "الدعم السريع"، حيث يتعثّر الجيش المكوّن بسيكولوجية الباشوات من مناطق وأقاليم مختلفة.

ثم برز حميدتي كحيثية ورمزية، تمثّل أبناء القبائل العربية المهمّشة، فتخوّفت النخبة الحاكمة التي يُنسب لها ازدراء واحتقار غيرها من القبائل، من صعود نجم حميدتي خصوصًا بعد تمركز قواته بشكل متداخل مع قيادة الجيش في مربّعات الخرطوم السيادية، وأوصلت هواجسها للرئيس السابق، فأجابها البشير "حميدتي حمايتي".

"الساحر الأمريكي" منع قوى التغيير من تذوّق لقمة نصر، تمكّنها من بناء الدولة المدنيّة

وعندما كادت مظاهرات الخرطوم بانحياز "الدعم السريع" لها، أن تقتلع النظام السابق لا رأسه فقط، تدخّل الساحر الأمريكي انتوني بلينكن مقنعًا قيادة الجيش بتنحية البشير دون نظامه، ومانعًا قوى التغيير من تذوّق لقمة نصر، تمكّنها من بناء الدولة المدنيّة المنشودة. ونتيجة مكر الساحر إيّاه، وجد السودانيون أنفسهم، أمام عمر بشير جديد، يُدعى عبد الفتاح البرهان الذي نفّذ ثلاثة انقلابات. الأوّل، على البشير دون نظامه. الثاني، على حكومة عبدالله حمدوك. أمّا الثالث، فعلى قوى التغيير و"الدعم السريع"، حيث تمسّك البرهان بالدمج، ورفض مطالب حميدتي بالإصلاحات في الجيش، وتوّجها بانقلاب رابع على مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيرتس لإطاحته التي رفضها أنتونيو غوتيريش.

مُقاربة البرهان الدمجية، تقضي بإخضاع ضباط "الدعم" للتقييم من قبل قيادة الجيش. أمّا مقاربة حميدتي، فترتكز على تشكيل لجنة مشتركة من قيادتي الجيش و"الدعم السريع" تنظر في تقييمات ضباط الجيش و"الدعم" معاً. ووفقًا لمذكرة حميدتي، ينصّ بند الإصلاحات الأوّل، على إخضاع تطويع الضبّاط في الكلية الحربية لشرطي "الدرجة العلمية وملحقاتها، وعدد السكّان على مستوى الأقاليم والمكوّنات الاجتماعية"، ليكون لكل مكوّن حصّة من الضبّاط توازي نسبته السكّانية.

وإذا ما نظرنا في تركيبة الجيش، فيتبيّن أنّها وبحسب ضابط متقاعد كبير، تضمّ نحو 3100 ضابط، بينهم 2870 ضابطًا ينحدرون من قبائل الشمال التي تبلغ نحو ثلاثة ملايين نسمة. في حين أن كردُفان ودارفور تبلغان نحو 15 مليون نسمة، ونسبتهم من ضبّاط الكلية الحربية لا تتجاوز الـ5%. أمّا بالنسبة للجنود والرتباء، فالتجنيد الإلزامي شبه حصري بالأقاليم المهمّشة، وشكلي في قبائل الشمال.


خريطة السيطرة العسكرية على الخرطوم (الجيش بالأحمر، والدعم السريع بالأصفر)

تركيبة الجيش، كشفت طبقيته التمييزية.. ضبّاط من السادة، وجنود من العبيد. ويُرجعها البعض، لزمن الزبير باشا تاجر الرق والعبيد، الذي أصبح حاكمًا. وهي مختلفة عن تركيبة الدعم السريع التي تنتفي فيها الطبقيّة، ويتساوى فيها الضباط والجنود لأنّهم من بيئات اجتماعية واحدة.

اتخذ البرهان ثلاثة قرارات بالغة الدلالة... وقيادة الجيش تلعب حاليًا "اللعبة معكوسة" في دارفور

لهذه الأسباب الحسّاسة، رفض البرهان الإصلاحات في الجيش الذي لم يعد سرًّا حجم افتقاده للسيطرة في الخرطوم، سيّما وأن ميدان الحرب الأساسي هو مقر القيادة العامة المتمركزة تحت الأرض، فيما "الدعم السريع" فوقها. حرب سقط في بدايتها نحو ستة الآف قتيل دُفنوا بمبادرة شعبية، في حدائق المنازل والأرصفة، برقابة أمنية منعت التصوير.

وكقائد عام للقوات المسلّحة، ورئيس للمجلس السيادي، اتخذ البرهان ثلاثة قرارات بالغة الدلالة. الأوّل، بتعيين شمس الدين كبّاشي نائبًا للقائد العام للقوات المسلّحة، وياسر عطا وابراهيم جابر مساعدين له، ما يعزّز ادعاءات حميدتي بسيطرة الإسلاميين المتطرفين على قيادة الجيش. الثاني، بتعيين مالك عقّار نائبًا لرئيس المجلس السيادي بديلًا لحميدتي. الثالث، بإلغاء "اتفاقية جوبا" التي دخلت بموجبها الحركات المسلحة (باستثناء جماعة عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور الذين رفضا التوقيع على الإتفاقية)، إلى المجلس السيادي والحكومة.

فك شيفرة القرارات تكشف، أن كبّاشي وعقّار ينحدران من مكوّن النوبة. وفيما يُعرف كبّاشي بانتمائه الحركي المتطرّف، فهو غير قادر على الاستقطاب خارج بيئته. أمّا تعيين عقّار المعزول من رئاسة الحركة الشعبية، فيهدف لاستقطاب أتباعه، الذين سُجّل انخراطهم في القتال ضد "الدعم"، وقابله انخراط جماعة عبد العزيز الحلو في النوبة في القتال ضد الجيش، وسيطرتهم على عدة حاميات عسكرية في ولاية النيل الأزرق.

 "الدعم السريع" يحظى بمروحة قبائلية ومناطقية، والجيش يحظى بحاضنة حزب البشير والحركات الإسلامية

ويبدو جليًا أنّ قيادة الجيش تلعب حاليًا اللعبة معكوسة في دارفور، عبر تسليح قبيلتي "الفور والمساليت" لمقاتلة "الدعم السريع" كما حصل في زالنجي. وقد فُسّرت دعوة حاكم دارفور أركو ميناوي لأبناء دارفور بحمل السلاح لحماية أنفسهم، بمثابة دعوة خاصة لقبيلته الزغاوة الممتدّة الى تشاد وحكمها. ما يعني أنّ قرارات البرهان الجديدة، وآخرها تهديده باستخدام القوة المُميتة، تزامنًا مع إعلان قيادة الجيش تعليق مشاركتها في مفاوضات جدّه بحجة عدم التزام "الدعم السريع"، ستدفع بالسودان إلى تعقيدات وإصطفافات تطلق العنان لاحتراب الجميع.

وفيما بات واضحًا، أنّ "الدعم السريع" يحظى بمروحة قبائلية ومناطقية، فقد بات واضحًا أنّ الجيش يفتقد لحاضنة خارج حزب البشير والحركات الإسلامية، خلافاً لتكفير أقرانها من الحركات الإسلامية للحكومات والجيوش. وهنا يُفهم أنّ المقصودين بالتسلّح من متقاعدي الجيش والشرطة، هم أبناء الشريط النيلي.

وفي هذا السياق نتوقف عند اعترافات بعض الأسرى لدى الدعم السريع، ومنهم اللواء متقاعد أنس عمر الذي أقرّ بأنه "بتكليف من البرهان، تولّى التعبئة خلال رمضان، بهدف التحضير للإنقلاب الذي تعدّه قيادة الجيش والمؤتمر الوطني على غرار الإنقلابات السابقة".

الأخطر، ما أورده رئيس التيار الإسلامي العريض محمد الجزولي الذي اعترف بـ"انتمائه لداعش، وبتواصله مع قيادة الجيش يوم توقيع الإتفاق الإطاري بغرض إسقاطه، مبيّنًا يقينه بأنّ وصف الجيش لـ"الدعم" بالمتمردين كتب نهايتهم، لكنه صُدم بعدم صحة التقديرات".

أمّا هروب القيادي في المؤتمر الوطني أحمد هارون المطلوب دوليًا، من السجن، وإعلانه "حمل السلاح وحماية نفسه بنفسه"، فلا داع للتوسّع فيه.

بالعودة إلى وقف إطلاق النار وخروقاته المتكررة، لا بدّ من التوقّف عند تهديد وزير الخارجية الأمريكية بسيف العقوبات ووسائل أخرى لمخترقي وقف إطلاق النار، كاشفًا عن توجّهات بلاده بدعم حكومة ديمقراطية تمثّل التنوّع السوداني بمن في ذلك سكان أطرافه الذين تعرّضوا للتهمّيش منذ فترة طويلة، ولم ينسَ بلينكن تأكيد شراكة بلاده مع شعب السودان الذي قاوم بشجاعة الديكتاتورية العسكرية.

تجحيظ بلينكن للتهمّيش المزمن لأطراف السودان، ليس بهدف إنصافها وتضميد جراحها، وإنّما للاستثمار فيها وعليها، حفظًا لمقتضيات الأمن القومي الأمريكي:

مقتضيات، تعبّر عن قلق عميق من تموضع قاعدة روسية نووية موعودة من حكومة البشير، ثم مجلس السيادة والإتفاق الإطاري الذين سيصوّتون لإقرارها. ما يعني وكأنّ واشنطن، دفّعت البشير (الذي سبق وأبلغ بوتين في سياق اقتراحه إنشاء القاعدة، أنّ "السودان مفتاح إفريقيا") الثمن عبر تنحيته. كما ودفّعت قوى الإتفاق الإطاري والجيش و"الدعم السريع" عبر الحرب الحالية، ثمن استمرار وعدهم لبوتين بإنشاء القاعدة، ما يفسّر تموضع البوارج الأمريكية غير المستتر في بورتسودان بحجة إجلاء رعاياها من البلد المنكوب.

مقتضيات، تنطلق من تصاعد نفوذ مجموعة فاغنر في السودان ودواخل إفريقيا إنطلاقًا من ليبيا.

مقتضيات مجهولة، استدعت تغييب مصر عن مفاوضات جدّة، ما دفعها للتراجع خطوة إلى الوراء. ويرجّح أنّ القاهرة التي انحازت للجيش السوداني، بسبب دورها القديم في تكوينه، قد اكتشفت خداعها من البرهان، الذي أخفى عنها ما تكشفه وقائع الحرب من تحكّم الإخوان والمتطرّفين بمفاصل الجيش. خداع، ربما يفسّر الكلام الأخير للرئيس عبد الفتاح السيسي "النزاع في السودان هو أمر يخصّ الأشقاء السودانيين، ودورنا كأطراف إقليمية مساعدتهم على إيقافه".

وبقدر ما بدا تغييب القاهرة مثيرًا، كان تظهير جدّة لافتًا.. أولًا، لكون المسافة التي تفصل جدّة عن بورتسودان نحو 270 كلم، ما سهّل إجلاء الرعايا العرب والأجانب إليها. ثانيًا، لاعتمادها أمريكيًا كمقر للمفاوضات بين طرفي القتال.

هل تجعل أميركا السودان "أوكرانيا البحر الأحمر"؟ وهل إعلان أفريقيا الوسطى عن حاجتها لقاعدة روسية بداية الردّ الروسي؟

لكن المقتضيات الأكثر عمقًا، فتلك الناجمة عن اندفاعة الصين إنطلاقًا من رعايتها الإتفاق السعودي الإيراني، الذي تسعى واشنطن لتقويضه، بنقيض مزدوج بحثه مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

النقيض الأوّل، مشروع القطارات الهندية المفاجئ، أي البديل الأمريكي لمشروع الحزام والطريق الصيني.

النقيض الثاني، التطبيع بين السعودية وإسرائيل، كما كشفه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميللر الذي تحدّث عن اتصالات بين بن سلمان ونتنياهو.

وإلّا.. فيُرجّح أن يُعيد التاريخ نفسه، ليس بتكرار حميدتي لتجربة التعايشي. وإنّما بتكرار الساحر الأمريكي لتجربة الإنكليز، ليس باحتلال السودان، وإنما بتشغيل المحرّكات الأمريكية لجعل السودان أوكرانيا البحر الأحمر بضفتيه الآسيوية والأفريقية.

لكن هل يعتبر إعلان أفريقيا الوسطى عن حاجتها لقاعدة روسية تضم نحو 10 الآف جندي بداية الرد الروسي؟. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن