كما أنه رجل تجاوز التسعين من عمره و"عاصر حوادث تاريخية كان لها تأثير كبير في أفكاره وتوجّهاته" (أسماء ملكاوي)، جعلته لا ينحاز دائمًا للقضايا العادلة والمحن الإنسانية، من ذلك دفاعه المستميت على مثالية الفضاء العمومي البرجوازي، الذي أطلق عليه اسم "الأنموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي"، مع أن نانسي فرايز انتقدت بشدّة هذا التصوّر نظرًا لكون الفضاء العمومي البرجوازي لم يكن موجودًا وحده، وليس البرجوازيون وحدهم من أطروه (قضية النوع الاجتماعي التي حضرت خلال القرن 19 و20 وكان عمادها النساء، وقضية السود في أمريكا..)، وهو ما جعل كثيرين يصنّفونه تحت غطاء "مفكّر سياسي محافظ لا تُعرف له مواقف تُدافع عن حق الشعوب في التحرّر" (خلدون النبواني)، إذ ظلّ يقدّم مثلًا، وفي أكثر من مناسبة، مواقف مجاملة ومتضامنة مع إسرائيل ويرفض التوقف عند هبّات الشعوب المقهورة، وهو ما جسّده مؤخرًا البيان الأخير الذي أصدره رفقة ثلاثة من زملائه متضامنًا مع إسرائيل واليهود ضد حماس و"أولئك الذين يقيمون في ألمانيا".
يبدو أنّ هابرماس لم يستكمل نظرياته الأخلاقية ولم يتوقف عند مجازر ارتُكبت ضمن أنظمة سلطوية تفتقد الديمقراطية
قبل هذا كان آخر توقّف لهابرماس عند أحداث كبرى عرفها العالم الحر، هو "أحداث 11 سبتمبر 2001" عندما قدّم كتاب "الفلسفة في زمن الإرهاب"، وافترق فيه عن جاك دريدا "اليهودي الذي عانى التمييز العنصري في عهد حكومة فيشي وبقي الأقرب إلى قضايا العرب ومعاناتهم، فيما ظهر هابرماس متلبسًا فظاعة المحرقة اليهودية التي تُثقل ضمير الألمان" (خلدون النبواني)، وفيما بين الموقفين يبدو أنّ هابرماس لم يستكمل رؤاه الفلسفية ونظرياته الأخلاقية ولم يتوقف عند حروب ومجازر ارتُكبت في حق المدنيين ضمن أنظمة سلطوية تفتقد الديمقراطية.
ولم يتوقف أيضًا في سياق التحوّلات السياسية الكثيفة التي أضفتها شبكات الإنترنت وفضاءاتها الاجتماعية، فيما بين 2004 و2010 في مدريد وإيران وأيسلندا وتركيا وهونغ كونغ والمكسيك والبرازيل.. وصولًا إلى ثورات الربيع العربي، ويرجع ذلك في منظورنا وبكثير من الحذر المنهجي إلى موقف الفيلسوف السلبي من المقاومة وأشكال النضال الاجتماعي، ومن التقنية والعقل التقاني الذي ارتهن للّعبة السياسية، مع أنّ كثيرًا من منظّري الفضاءات الحضرية، أمثال مانويل كاستيلز، قد أبدوا اهتمامًا متزايدًا بنظرية المجتمع الشبكي وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي بوصفها فضاءات الاستقلال الذاتي التي ساعدت على العدوى العاطفية وتنامي الاحتجاجات في الفضاء العمومي، حيث رأى البعض أنّ ثلاثية كاستيلز حول "عصر المعلومات" قدّمت إطارًا مفاهيميًا جديدًا لفهم التحوّلات الجذرية التي بدأ يعيشها المجتمع العالمي بفعل المنجز التكنولوجي، وقد ظهر ذلك جليًا عندما لجأ أنطونيو غيدنز إلى مقارنة الجزء الأول من الثلاثية بأحد أهم المؤلفات السوسيولوجية التأسيسية لماكس فيبر (الاقتصاد والمجتمع).
لا يوجد ما يُثبت اهتمام هابرماس بحجم التغيّـرات التي عرفها الفضاء العمومي في العصر الشبكي
خلقت هذه التحوّلات نوعًا من الحميمية العمومية كظاهرة فينومينولوجية معقدة سمتها التدفق الكامل للتجربة اليومية المعيشة بمتطلّباتها الأخلاقية والعاطفية والعقائدية على نحو شبكي، وهو ما استثمرته وبكفاءة عالية "كتائب القسّام" منذ العبور التاريخي "7 أكتوبر" نحو غلاف غزّة، وظلّت تستثمره إلى اليوم، وتفوّقت فيه على كل الأجهزة والأذرع الإلكترونية الإسرائيلية، تفوّقًا نقل الرأي العالمي من التنديد بأحداث الطوفان ووسم "حماس" بالإرهابية، إلى تعاطف سال وتدفّق على نحو عالمي، متجاوزًا بحسب مراقبين 90%، نظرًا لكثافة المحتوى الرقمي الداعم لغزّة والمنتشر على مدار الساعة، تدخّلت فيه وسائل إعلام عالمية ومحلية ومجموعات من المؤثرين والأفراد العاديين، لنقل صور المجازر والقصف، وعرض شجاعة "كتائب القسّام" من المسافة صفر في مواجهة الآليات الإسرائيلية، وصولًا عند "محفل" توديع الأسرى الإسرائيليين في جو مهيب خيّمت عليه حالات التعاطف والحب من الاتجاهين.
لكن هل عايش وتابع الفيلسوف التسعيني كل هذه الأحداث ووثّقها؟ وأخذها في الحسبان وهو يصوغ مبادئ التضامن؟ وهل استطاع من خلالها إدراك التحوّلات الهائلة التي تضفيها الشبكات وانعكاساتها على نظريته التواصلية؟
من خلال تتبّع أعمال هابرماس القديمة والحديثة، لا يوجد ما يثبت اهتمامه بحجم التغيّرات التي عرفها الفضاء العمومي في العصر الشبكي، وقد كان ذلك مصدر إحباط لكثير من المهتمين بنظرياته التواصلية، خاصة بعد محاضرته التاريخية في مؤتمر "جمعية الاتصال الدولية" بعنوان: "التواصل السياسي في مجتمع الإعلام: هل ما زالت الديموقراطية تتمتّع ببُعد معرفي؟"، فقد أشار أليكس بيرنر المتخصّص في تقانة التواصل الرقمي، إلى أن "هابرماس غير قادر، أو أنه لا يرغب، في ترجمة المجال العام الذي وضعه بداية ستينات القرن الماضي، كأنموذج للتواصل السياسي في المجتمعات الحديثة التي انتقلت من عصر وسائل الاتصال الجماهيري إلى العصر الشبكي الرقمي، أو أنه ربما لا يدرك حقيقة الإنترنت" (ستيوارت جيغر).
إضافة إلى ذلك، سجّل هارولد راينغولد الباحث المتخصّص في الآثار الاجتماعية والسياسية لوسائل الإعلام الرقمي، تحليلًا لموقف هابرماس من الإنترنت، بعد أن التقاه في إحدى الندوات وسأله عن رأيه في وضع المجال العام الآن، بعد أن حلّت وسائل الإعلام الرقمية التي تبث وفق "نمط الكثير إلى الكثير"، "ولم يقم هابرماس بتفسير هذا السؤال تفسيرًا مُرضيًا، الأمر الذي جعل راينغولد يصل إلى نتيجة مفادها أنّ هابرماس لا يفهم الإنترنت" (ستيوارت جيغر).
لو قدّر لجميع الذين تعاطفوا مع "حماس" من أنحاء العالم أن يكتفوا بما قُدّم في الإعلام الرسمي لقُلبت المعادلة
على هذا الأساس يمكن أن نستخلص أنّ هابرماس لم يعايش العدوان الإسرائيلي على غزّة كما عايشه كثيرون على الإنترنت وخلقوا نوعًا من الحميمية العمومية مع أحداثه، بل اكتفى بقنوات الإعلام الرسمي فقط، وهي التي قدّمت صورة باهتة ومقتضبة عن واقع المجازر، وذلك راجع لأسباب ربما تتعلّق بتقدّم سنّه، وعدم تملّكه القدرة والقوة على مجاراة سرعة وسيولة الإنترنت وكثافة تدفقاتها، أو عدم إيمانه بحقيقة وفعالية تقانة الإنترنت وقدرتها الجبارة على تغيير المواقف وصياغة الأحداث. ولو قدّر لجميع الذين تعاطفوا مع "حماس" من أنحاء العالم أن يكتفوا بما قُدّم في الإعلام الرسمي لقُلبت المعادلة وظلّت إسرائيل هي الضحية التي انبرت للدفاع عن وجودها ضد "الطوفان".
(خاص "عروبة 22")